الشّهداء الجدد!- الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday August 18, 2014 131

“ماذا تعلّمتِ بالأكثر في عمرك؟ الصّدق! كيف؟ أبي وأمّي كانا صادقين في تعاملهما أحدهما مع الآخر!”

الصّبيّة مريم (16 سنة)

   لا أقصد بهم الّذين يبذلون دمهم، اليوم، وحسب، بل المسمَّين “معترفين” أيضًا. هؤلاء، تقليدًا، كانوا يُصنَّفون في فئة الشّهداء. في كلّ حال، القدّيسون الأوائل كان المقصود بهم “الشّهداء”. فلمّا اتّسع معنى القداسة، قيس “القدّيسون” بالشّهداء نموذجًا!

   اليوم، الاضطهادُ يأتينا بمفهوم جديد للقداسة، والمكابدةُ بمفهوم جديد للشّهادة!

 الشهداء-الجدد  توجعني، دائمًا، قولة الرّسول المصطفى بولس لتلميذه تيموثاوس، بشأن الشّرّ في الأيّام الأخيرة. رؤياه فائقة في وضوحها وضنكها! في الأيّام الأخيرة، قال، أزمنة صعبة تأتي. يكون النّاس محبِّين لأنفسهم، محبِّين للمال، متعظّمين، مجدِّفين، دنسين، بلا حنو، بلا رضى، ثالبين، متكلِّمين بالسّوء على سواهم، عديمي النّزاهة، شرسين، غير محبِّين للصّلاح، خائنين، محبِّين للّذّات دون محبّة الله، لهم صورة التّقوى، ولكنّهم منكرون قوّتها، يقاومون الحقّ. أناس فاسدة أذهانهم!

   الكلام هو على السّواد الأعظم، بالأحرى، من أبناء الكنيسة لا على الغرباء بالكلّيّة عن أفقها! لا ما يمنع، اليوم، أن تأتينا شهادة الدّم من الباب العريض، وهي آتيتُنا، هنا وثمّة! تصل إلينا أو لا تصل، متى تصل، في أيّ حجم تصل، ربُّك أدرى! أمُهيّأون لها نحن أم لا؟ بالتّأكيد لا!! الحفلات والمفرقعات، في أوساطنا، تؤكّد أنّ ما يحدث على بُعد كيلومترات منّا لا يعنينا! ما يأتي بالقول الكتابيّ حيًّا: قبل الطّوفان، كانوا يأكلون ويشربون، ولم يعلموا حتّى جاء الطّوفان وأخذ الجميع (متّى 24)!

   قديمًا، الكذب كان، بعامّة، قليلاً. كانت الجماعة تتعاطى الصّدق بيُسر. التزام الصّدق لم يكن مكلفًا. اليوم، كلّ شيء يُيسِّر لك الكذب، لا بل يحثّك عليه. غبيًّا يحسبونك إن لم تكذب. لم يعد الكذب، في التّداول، عيبًا، حتّى لا نقول لم يعد رذيلة! لذا يستغربون إن علموا أنّك لا تكذب! يعتبرونك ساذجًا! يسمّونك “قدِّيسًا”، ويقهقهون هزءًا! تحتاج لأن تبذل جهدًا لتَصْدُق! النّاس يقولون بالصّدق شعارًا، ولكنّهم يتوقّعون منك الكذب سيرة! هذا، بعامّة، مألوف، لا يصدمهم، وإن ضايقهم، قليلاً أو كثيرًا! في هكذا مناخ، إن تحفظ الصّدقَ زلالاً تكنْ شهيدًا! الصّدقُ يكلف! يميلون إلى استغلالك وإلى الاعتبار أنّ فيك خللاً! لذا، حتّى الأقربين، مَن يكنّون لك المودّات، يخافون عليك أن تنهج صادقًا بزيادة، لأنّ في ظنّهم أنّ هذا يسيء إلى سويّة تعاطيك مع الآخرين! القاعدة، في وجدانهم، أنّك إن لم تكن ذئبًا أكلتك الذّئاب! أنت بحاجة، في نظرهم، لأن تكون بعضًا من ذئب، على خِرافيّة معتدلة! حتّى الّذين يثمِّنون صدقك، يعتبرون أنّك تأتي فضيلة غير عاديّة! يفتخرون ويتباهون! بالأمس، كان الصّدق من العاديّات! اليوم، بات كأنّه عملة نادرة! أقلّه، يشجِّعونك على ألاّ تكون صارمًا في صدقك! هناك دائمًا فسحةٌ لكذبة بيضاء، مبرَّرة! ما يدفعك إلى المساومة وإلى الاسترخاء وإلى لوم الآخرين بيُسر وإلى تبرير ذاتك، يعتبرونه ممدوحًا، وسمةَ شخصيّةٍ اجتماعيّة متوازنة!

   وتكرّ السّبحة! الرّخاوة في الصّدق يستتبعه الكثير! فلا عَجَب إن وصف السّيّد الشّيطان بالكذّاب وأبي الكذّاب، لأنّ إثْرَ الكذب قتلٌ لكلّ نبْض حياة ولكلّ أَثَرِ فضيلةٍ فيك!

   في الكذب بذورُ المآثم كلِّها! أخفُّ الكذب التّمثيل؛ ثمّ تتصعّد به درجات الآفات إلى الرّياء فالخداع فالخبث فالإفساد والقتل المتعمّد للإنسان المكذوب عليه، روحًا وجسدًا! من ذا نَفَس الشّيطان فيه منذ آدم وحوّاء!

   الكذب يطيح الأمانة ويشيع اللاّحسّ ويطلق العنان، تدريجًا، لكلّ رذيلة. ولأنّهم لم يصدِّقوا الحقّ، أُولُو الكذب، بل سُرُّوا بالإثم، يرسل إليهم الله عملَ الضّلال. فماذا تكون المحصّلة؟ يصدِّقون الكذب، أو، قل، يصير الكذب لهم صِدْقًا (2 تسالونيكي2). يُعمي عيونهم ويصمّ آذانهم، فيستحيل نورُهم ظلمةً، وظلمتُهم نورًا! حسُّ الكلمة والصّدق والحقّ، إذ ذاك، يَضمر فيهم. يبدأ الكذب نَفْيًا للصّدق ويتكمّل تنكّرًا للحقّ! لذا الكذب يوقفك، من التّقوى، عند حدود الهيئة الخارجيّة، بناءً أجوف، فيجعلَك غير مبال لا بمضمون التّقوى ولا بقوّتها!

   يستبدل الكذبُ فيك محبّة الله بمحبّتك لنفسك، فتدخل، إذ ذاك، دائرة النّجاسة في مقابل القداسة. تمسي، شيئًا فشيئًا، كتلة محبّة للذّات، للّذّات! عوض الإيمان بالله، تغرق في الإيمان بالمال، صنمًا، وعوض العفّة في الحبّ تستقرّ في دنس المتعة، وعوض تواضع القلب تتعظّم، ما ييسِّر لك التّجديف والخيانة، فتستشرس وتمسي كارهًا الصّلاح، ويتبدّد فيك الحنو والرّضاء والنّزاهة. هكذا يَفسد ذهنك وتَضحى مقاومًا للحقّ، شيئًا فشيئًا، في كلّ حال!

   الكذبُ، اليوم، بلغ الذُّرَى! كطاقة الذّرّة انفلقت! لا ضوابط له، بعد، لا من مجتمع ولا من تراث ولا من ضمير! لذا كلُّ المفاسد تندفع به، على الأرض، كالسّيول! الكذب نسيج الإنسان العتيق بامتياز! من هنا الوصيّة: لا تكذبوا بعضكم على بعض، إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله (كولوسي 3)! ومن هنا أنّ الشّهادة، اليوم، هي ألاّ نكذب، لا في اللّسان، ولا في الفكر، ولا في التّعاطي، ولا في الأمانة، ولا في الحبّ، ولا في الصّوم، ولا في الصّلاة، ولا في التّقى، ولا في الرّضى، ولا في الحنو، ولا في دفء الكلام، ولا في محبّة الحقّ، ولا في قول الصّدق، ولا في مسلك الاتّضاع، ولا في اتّباع الصّلاح…

   الشّهداء الجدد، بالحريّ، ليسوا المقتولين أو المضطهدين لأنّهم محسوبون، إسمًا، على الحقّ، بل المولودون من جنب السّيّد بالماء والدّم والرّوح، أوّلاً، السّالكون في إثره، الحاملون نيرَه، المستميتون كلّ يوم في حفظ الصّلاة وسط التّجديف، وفي حفظ العفّة في بؤرة الزّنى، وفي تقديم التّضحيات في أدغال الأنانيّات، وفي التّمسّك بالصّدق والحقّ في مستنقع الكذب، وفي السّير بالنّزاهة والحنو والرّضاء بإزاء تفجّر العنف واستشراء القسوة وتفشّي التّذمّر، هؤلاء هم الشّهداء الجدد الحقّ! إن قُتلوا في الجسد يكن الأمر بَرَكة من عند ربّهم وتكميلاً؛ يمجِّدونه بها كما مجَّد الرّبّ يسوع أباه بميتة الصّليب، وكما أعطى السّيّدُ بطرسَ أن يتكمّل معلَّقًا، ورأسه إلى أسفل! طوبى للّذين يموتون، كلّ يوم، من أجل الحقّ! أعطِ دمًا وخذ روحًا!

   أن ننعطف على المعتَبَرين مسيحيِّين لكونهم يعانون ويُهجَّرون ويُضطَهدون، هذا بديهيّ، لأنّه ثمر إيماننا بابن الله؛ ومن ثمّ أن نطعمهم ونسقيهم ونهتمّ بسكنهم ودوائهم وكلّ حاجة أساسيّة من حاجاتهم، قدر طاقتنا! ولكن، هذا لا يكون إلاّ في إطار سعينا وإيّاهم إلى حفظ الشّهادة بالرّوح والحقّ، على نحو ما أبنّا أعلاه، حتّى لا نستحيل وإيّاهم قبيلة جاهليّة! ونحن، في هذا، نُقبل، بالغيرة عينها، على المسيحيِّين وعلى غير المسيحيِّين! لا هويّة للرّغيف إلاّ الجائع، ولا للّباس إلاّ العريان، ولا للدّواء إلاّ المريض الفقير! لا غريب عندنا إلاّ مَن نغرّبه عن قلوبنا! قريبي أنا أصنعه بنعمة الله! وطالما قرَّبَنا الرّبّ يسوع في جسده فنحن مقرِّبون كلَّ ذي جسد من قلوبنا طوعًا وعفوًا!

   اليوم، نَخرج إلى الطّرق والسّياجات لنُدخل، بالشّهادة للحقّ، إلى قلب بيت الله، المساكينَ والجُدع والعُرج والعُمي! هذه شهادتُنا، نَرُوض أنفسَنا عليها لأنّ الزّمان رديء، وكلاً فيه يطلب ما لنفسه! لا حقّ، اليوم، لأحد، في أن يطلب ما لذاته دون ما للموجوعين! أَحبَّ قريبك كنفسك! الكلّ لمسيح الرّبّ في الإخوة!

   هذا أوان الفَلاَح، هذا وقت الرّضاء، هذا حيِّز البركات، هذه فرصة النّداوة!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
17 أب 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share