قراءة في مؤتمر الوحدة الأنطاكية في البلمند – المحامي كارول سابا

mjoa Monday August 25, 2014 163

gal-1613362تحية الى شجاعة البطريرك يوحنا العاشر لدعوته الى هذا المؤتمر المتميز الذي طالبنا به مراراً منذ سنوات. أصاب المؤتمر في توقيت انعقاده. لأن كل تأخير يعرض الكنيسة لتصدع أكبر. لدينا اليوم رجاء وإطار لبداية مأسسة كنيسة تشاركية.
أصاب ايضاً باظهار عطش المؤمنين الى الشراكة الفعلية، فعلى القيادة الكنسية أن تحسب بعد اليوم حساباً للرأي العام الارثوذكسي الناشئ والمتحرك كي تشركه معها في مسيرة القرار. أصاب أيضاً في التنظيم اللوجستي، فكل شيء كان بلياقة وترتيب. لكن حذار أن يتبعثر الرصيد، إن لم نقرأ صحيحاً وديناميكياً في التحديات المفصلية، وفي ادارة المراحل ومناهج المتابعة. فتفكيك الألغام المنتشرة ضروري استباقياً. “بسطوا حياتكم، فيذهب القلق”، يقول الاب الروحي، القديس المعاصر، باييسيوسالآتوسي. فدعوته ليست الى التبسيط، التمييز بين المهم والأهم، فلا نتلهى بتفاصيل نجعلها عناوين تبعدنا عن الأساس. فإزالة القلق يتطلب انطاكياً مراجعة نقدية للمسارات المتراكمة الخاطئة، محاكاة للأعماق وتظهير للجوهر. تنظيمياً، وجّهت الى المؤتمر بعض الانتقادات منها تكوين الوفود وعدم نشر دراسات المحاضرين الجريئة، وأنا منهم حاضرت في الاعلام الكنسي والتواصل، وعدم نشر التوصيات النهائية وفقدان آليات المتابعة.

كان يُمكن نشر الدراسات أن يُغني المؤتمر أكثر وينفس الاحتقان مع من لم يتم دعوتهم. أما المتابعة المرجوة للمؤتمر، فلم تظهر بعد مع العلم أن قيمته المضافة لا تكمن في دعوته او نجاحه الآني، بل في ديناميكية متابعته. فمجرد رفع التوصيات الى مجمع مقدس مُقبل دون توزيعها بصياغتها النهائية على المؤتمرين لتصديقها، لا يُشكل خلاصة تشاركية للمؤتمر. أما غياب التغطية الاعلامية الفعالة و”عناصر الكلام” الرسمية حول المؤتمر وزبدة توصياته، فعرّضه للتأويلات التي لها وعليها.
بالطبع لا نيّة لأحد في إيصالنا الى بئر الماء الحي وقطع الحبل. لكن المرحلة الدقيقة هذه تتطلب تثمير سلامي للمؤتمر، يقرب الاضداد في الطائفة والكنيسة، فنحفظ وننمي الوحدة ضمن التنوع. فلا يقوم عهد بطريركي على ضرب عهد بطريركي آخر. وأنا على يقين أن لا نية اطلاقاً للبطريرك يوحنا بضرب انجازات المثلث الرحمات البطريرك هزيم، وهو كبير من كبارنا بما حقق وما كان عليه. لكن في هذا المضمار وغيره، المنهجيات القاتلة قد تُعيق التحليق، كالأجنحة المتكسّرة، وتخلق التباسات، فلا نزال نتحرك بشكل تقليدي ونُعطي “وقتاً للوقت” الذي لم نعد نملكه، بينما المرحلة تتطلب خطة استثنائية ديناميكية.
أما في مفاصل الهم الانطاكي، فكان يُمكن للمؤتمر ان يكون منصة لاعلان عودة الغائب المغيب المطران بولس ورفيقه القضية الانطاكية الاولى، ولما لها من رمزية وطنية مشرقية كان يمكن المطالبة بقمة روحية اسلامية مسيحية “مفتوحة” وبلجنة تحقيق دولية لوضع الجميع أمام مسؤولياتهم والقضية على المهجر الوطني والاعلامي والسمع الديبلوماسي.
كان لا بد أيضاً، مع التأكيد على مبدأ عدم التدخل في شؤون بطريركية أخرى، من الاشارة الى ما يحدث في أورشليم بين القيادة الكنسية وابنائها وإرسال كلمة تعاضد وتنبيه الى الجهتين، أن مقياس الكنيسة لا يتقاطع مع العنصريات على أنواعها. وكان لا بد من التذكير بنزاعنا مع هذه البطريركية حول تسقيفهم لأرشمندريت على أرض كنيسة انطاكية في قطر، وبنقاط الاتفاق الذي أتممناه في الخارجية اليونانية في أثينا في حزيران 2013، ولم نثمنه اعلامياً حتى الآن، وهو القيمة المضافة والأرضية الوحيدة لحل هذا الملف، وهو الذي أمسى موثقاً في الخارجية اليونانية وفي مُراسلات البطريرك المسكوني مع البطاركة.
وأمام مرض الأولية الذي يعصف بالكنائس الارثوذكسية، كان لا بد من تعلية الصوت النبوي الأنطاكي لتأنيب الفريسية الجديدة التي تقتل البشارة والرعاية لمصلحة السلطة. ففيما يحاول البابا فرنسيس الخروج من البابوية، تتسلل الأخيرة الى الكنائس الارثوذكسية باشكال مختلفة. وأمام المتغيرات المشرقية، كان لا بد وطنياً من البدء بمراجعة نقدية لأسباب انكفائنا في مجتمعاتنا ولصعود الازمات والأصوليات فيها، والمباشرة بمسح مادي ومعنوي للأضرار التي أصبنا بها.
فالتحدي الوطني اليوم هو أكبر تحدياتنا الذي يتطلب منا جهوزية فكرية لاعادة انتاج دورنا الوطني وترسيم معالمه المشرّفة دون ابطاء من خلال الخروج من كل أنواع الذميات وتحصين مجتمع المواطنة والتعايش والتنوع. في محاضرتي في البلمند قلت: “أمهلوا البطريرك يوحنا الحبيب ولا تهملوا الشأن الكنسي، فمن الكبير لا يخرج إلا الكبير”.
الخروج من تراكمات الماضي يتطلب تغييراً نوعياً ومقاربات متجددة غير تقليدية تخاطب “عقل” عالم اليوم، والتوثب نحو المستقبل يفترض استبدال منطق المركز بمنطق الشبكة، إعلامياً وبالتعامل بين الأبرشيات ومع المهاجر، واستبدال منطق الادارة بمنطق البشارة، والمحافظة بالتنمية، والاستئثار بالمشاركة، ووحدانية القرار بالشورى، والشخصانية بالمنهجية والضبابية بالشفافية. عندها يمكن أن نسمع صوت الربّ الواقف على الباب، والذي لا يزال يُحاول أن يُكلمنا.

النهار
25 آب 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share