“هلك شعبي من عدم المعرفة… شعبٌ لا يَعقِل يُصرَع… أنا تأديبٌ لجميعهم…إلى متى لا يستطيعون النّقاوة”؟ (هوشع النّبيّ).
الأجواء تُصَوَّر ملبّدة! والعواصف تُصوَّت هادرة! والأهوية تُنفَخ رعناء كما لتمزِّق وتُبعثر كلَّ أحد وكلَّ شيء! الإعلام ووسائل الاتّصال الإجتماعيّ يتكفَّل بترويج “التّهويل والإضلال” استنادًا إلى شبه بيِّنات ومزاعم متداخلة لا إمكان تثبُّتٍ من صحّة أيّ منها ولا تمييزِ ما هو واقعٌ ممّا هو مختلَقٌ فيها! أكثر الأحداث، اليوم، خاضعٌ للمونتاج! حريٌّ بالإعلام، كما يُتعاطى، اليوم، أن يُسمَّى “تعميةً موجَّهة”، خَلْقًا لحال سيكوجماهيريّة إيحائيّة تسييريّة، تصل إلى حدّ الهيستيريّة، يُمسِك بزمامها، بخبث وتقنيّة عالية، صانعو ما يُزعَم أنّه “الرّأي العامّ”، وما يُصوَّر أنّه موقف “الأسرة الدّوليّة”، زورًا! ما عاد الإعلام كقِطَع الموزييك في لوحة فنّيّة غنيّة بألوانها وأشكالها! بات، بعامّة، تردّدات نوطة واحدة، لها مرمى واحد، وتشير إلى عقل واحد، في لغات متباينة! يدٌ آثمة تقبض على النّفوس! قلّما تجدُ هوامش للتّوجّه الأشمل! تجدها، بالأحرى، في طرق التّعبير والنّبرة والدّور الأحديّ التّمثيليّ المسيَّر، من هذه الجهة وتلك!
على هذا، ثمّة جوّ مصطنع، ملوَّثٌ، متفجِّر، يصوِّر، لناس هذه الأرجاء، أنّهم في عين العاصفة! الوحوش الفكريّة تُخرَج، بتخطيط، من مرابضها، لتَضخّ في النّفوس قلقًا وهلعًا! الأحوال في كثافة الضّبابيّة! لا نعرف، بشريًّا، ما نتوقّع! جملة أحجية! الغموض من كثافة الخطيئة وعمق الرّياء! نحاول أن نُسكِّن اضطراباتنا باجتهادات، هي أدنى إلى التّمنّيات، عساها تبعث، في النّفوس، التّفاؤل! وأين التّفاؤل من الواقع؟!
المسيحيّون، كغيرهم، في هذا الجو الوجدانيّ، معرَّضون لكلّ القصف الفكريّ! الكلُّ، في هذه الدّيار، مسلمين ومسيحيّين، لو كنّا ندري، مستهدَف! يعملون على قتلنا بأفكارنا وتراثنا وأيدينا! المسلمون، للتّخلّص من أكبر عدد منهم! كيف؟ بتصويرهم وحوشًا دينيّة وبإثارة النّعرات التّاريخيّة فيما بينهم وحثّ وتشجيع الجميع، شراذم، على مقاتلة الجميع! والمسيحيّون مستهدَفون، أيضًا، إفراغًا لديار العيش المشترك منهم! بأيّ قصد؟ أوّلاً، بقصد الانتقام التّاريخيّ منهم! يُصوَّرون للمسلمين الأصوليّين كصليبيِّين، غطاءً لحقد دفين في أفئدتهم على المسيح والمؤمنين به! وثانيًا بقصد النّيل من التّفاعل الحضاريّ الإسلاميّ المسيحيّ حتّى لا تبقى هنا ولا حتّى أطلال منه! في ما يجري كيديّة شيطانيّة وخباثة ما بعدها خباثة! وحدهم أبناء إبليس، الموصوفون كذلك في الكتاب المقدّس، هم قادرون على ذلك!
لا يليق بالمسيحيِّين أن يقرأوا الأحداث الجارية، كما في الإعلام، وبعيون مَن وراء الإعلام، وكما يريدهم مثيرو هذه الأحداث أن يقرأوها! شيطانا صناعة الأحداث وإشاعة الأخبار المزعومة بشأنها أَخَوان! إنّما الآتي كان ولا زال وسيبقى في يد ربِّك وعلمه! ثمّة مَن هو قادر على التّأسيس للفوضى، لكنّه لا يقدر أن يضمن ما ستؤول إليه! ليس أحد ضابطًا ما يعمل له ويتمنّاه! وحده ربّك الضّابط الكلّ، الممسِك بدفّة الأمور، المسيِّر السّفينة، مهما أبحرت في الشّواش، إلى حيث يشاء هو وحده! عند ربِّك الواقعُ آخر والتّاريخ بين يديه، وكذا قلوب الآمِرين، وإن كانوا لا يعلمون!
إن قال لك أحد: هذا هو المخطَّط… تلك هي المؤامرة… غدًا يحدث كذا، وبعد غد كذا… دورك آت، فلا تصدّقه، فإنّك بتصديق ادّعاءاته تحقّقه! في ما يشاع الكثيرُ من الإيحاء الخيالي! أنت بإزاء فيلم هوليوديّ إيهاميّ! لا تؤخذنّ بعِقَدِه مهما بدا واقعيًّا! لا تكن ممثِّلاً/ وقودًا للمتسيِّدين المخادعين يُقحمونه في شرورهم وعبثيَّاتهم! يكفيك أن تتمثّل حقيقة ربّك وكلمته والرّجاء به! لتكن عينُك على وجهه لا على العاصفة حتّى لا تشرع في الغرق كبطرس! أنت بين يديه وشعرة من رأسك لا تسقط من دون إذنه! فكِّر إلهيًّا واسلك روحيًّا واثبت على الرّجاء وانتظر خلاص إلهك! عندما كان شعب الله الخارج من مصر في الرّعدة من الفراعنة، لأنّ البحر كان أمامه والعدو وراءه، قال الرّبّ الإله لشعبه بموسى: اثبتوا، لا تخافوا! بعد قليل لا تعودون ترون الفراعنة! وهذا تمامًا ما حدث! طرق ربّنا غير طرقنا، وساعته غير ساعتنا! فقط علينا بالتّوبة والثّبات في الأمانة والإقامة في الرّجاء، والباقي عليه! إذا آمنتِ ترين مجد الله! ليس ضعفُنا العائقَ بل قلّة أمانتنا!
في هذا السّياق، دونك المنطق الإلهيّ، خاصّة في الملمّات، كيف يعمل!
اعلم، أوّلاً، أنّ ثمّة خطيئة جماعيّة، في أهل بيت الله، التهبت، وهي وراء الحدث والأحداث الجارية! اصطُفينا لنقدِّس العالم، وبخاصّة كلٌّ في بقعته، لكنّه بنا يعاني العالم، متى ارتددنا عن الله وكففنا عن أن نكون نورَه وملح الأرض! هذه رسوليّتنا! ما نراه هو القيح لا علّة القيح! ليست العلّة سياسيّة بل روحيّة! ما نراه هو الانحلال لا موطن الفساد! كلّ هذا يحدث بسبب خطايانا! نعي ذلك أو لا نعيه، هذا لا يغيِّر شيئًا من الحقيقة! لم نُعطَ أن ندين أحدًا بل أن نساهم في خلاصه! وما لم نساهم في خلاصه نوجَد، حتمًا، مساهمين في خطيئته وهلاكه! رحمك الله يا أبانا “مطر”! في حرب الـ75/90، كان يصرخ، كلّما أشار أحدهم إلى ما كان يجري في تلك الأيّام: هذا كلّه حصل لنا بسبب خطيئتي أنا!! بواحد، كيونان النّبيّ، تُشرِف السّفينة، بمَن على متنها، على الغرق، ولو كانوا أبرياء، لأنّه لا يشاء أن يطيع ربّه! وبواحد، كبولس الرّسول، ينجو كلّ مَن في السّفينة، ولو كانوا أثمة، لأنّه سلك، بأمانة، كمصطفًى لإلهه! لا فقط الشّاردون يعانون، بل الأبرار أيضًا! الأوائل ليتأدّبوا ويتوبوا، والأواخر، شركةً في ألم الشّاردين، وشهادة لربِّهم، كمرآة له، إذ تألّم من أجل الخطأة، وهو البريء من الخطيئة، مدًّا لمحبّته!
متى اختار ربّك التّأديب مسرًى لشعبه، لأسباب هو بها أدرى، فاخضعْ له، مستأهِلاً اعتبرتَ نفسك أم غير مستأهِل! لا تتمرَّد على تدبير العليّ ولا تتذمّر! ثمّة وقت للتّأديب ووقت لرفع التّأديب! فإنّك إن قاومت لتتخلّص من نيره عليك، تزيده ثقلاً وتتفاقم حالك؛ وإن تذمّرت خسرتَ نعمة ربّك؛ وإن لُمتَه لتبرِّر نفسك، كأيّوب، قرّعك! بخدمة شعب الله للفراعنة بورك، ولو رتع في العَرق والدّمع، إلى أن حان ميعاد إنصافه، فأطلقه العليّ، إذ ذاك، إلى أرض تفيض لبنًا وعسلاً! كلّ ما يأتي عليك، من ربِّك احسبه، ولخيرك تعاطاه، وإن كنت لا ترى في الضّيق خيرًا! يأتي وقت تجدك، في مرآة ربّك، مجرَّحًا، ولكنْ، ذائقًا القيامة نظيره! ساعتذاك تذكر وعده! وساعتذاك تفهم!
الزّمن، الآن، زمن امتحان وغربلة! ليس لك، الآن، أن تفهم! يكفيك أن تقبل! ثمّة حولك المهجّر والشّريد والمريض والثّكلى! لا يسعك أن تسلك كأنّ الأمر يعني سواك ولا يعنيك! اجعل نفسك، اليوم، شريكًا في آلام سواك، ليكون لك، غدًا، إذا ما ابتُليت، شركاء في آلامك من لدن ربّك! أليس أنّه بالكيل الّذي به تكيلون يُكال لكم؟! لا فقط لا تسلك كأنّ الأمر لا يعنيك، بل لا تُعطِ، أبدًا، من فضلاتك! هذا ربّما أرضى غرورك، لكنّه، حتمًا، لا يُرضي ربّك! العطيّة المتوقّعَة منك فيض قلب! أنت ابن الملك السّماويّ! فتصرَّف بأخلاق أبيك وسخائه! لا فقط ماذا تعطي، بل، بالحري، بأيّ روح تعطي! ثيابك الّتي نسيتَها ولم تعد تلبسها لا تعتبرْها عطيّةَ محبّة للمحتاج إن تخلَّصت منها! ليس المحتاج “صندوق قمامة” لما لا تبالي به! إنّه أيقونة ربّك عينه! ولا حتّى القليل من المال الّذي تقتطعه من حسابك، غرورًا، وهو لا يؤثّر في معيشتك، هو، في ذاته، ذو قيمة! ما لا يخرج من قلبك ومن وجعك على قريبك لا يدخل في حسابك عند ربّك! أمران احرص على متابعتهما: صُمْ عن حاجاتك، واكتفِ بالضّروريّ! هذا أوّلاً! النّسك الإراديّ، من قِبَلك، يعادل الألم غير الإراديّ لأخيك! انوجع بلحمك وعصبك ببعض ما يعانيه سواك! قبل العطاء، شركة الألم في المحبّة! هذا يعين في توحّدك بالآخرين، في حسّك الدّاخليّ، وإلاّ يستحيل المعانون لديك خَبَرًا، تأسف له اليوم وتنساه غدًا، أو تخدِّر حسّك حياله بشبه عطاء، كالّذي ذكرناه أعلاه، ثمّ تنساه، حاسبًا أنّك قمت بواجبك! لا واجب في الحبّ! “تحبّ أو لا تحبّ”، هذه هي المسألة! ثمّ، هذا يعطيك أن تتمرّس في شيء من الشّدّة في حال داهمتك على حين غرّة! الاكتفاء بالمشاركة الوجدانيّة مع المتضيِّق والمحتاج، يضيِّع عليك فرصة أن تنمو في المحبّة والنّعمة والقامة ورجولة القلب!
والأمر الثّاني، ما تقتطعه من حاجاتك اليوميّة، بصدق وأمانة، هذا، بخاصّة، كخميرة، ابذله للمحتاج! ومتى تحرّك قلبك، في العمق، ساعتذاك ابذل من حسابك المصرفيّ، إذا ما كان عندك، بما يوحي لك به ضميرك! المهمّ قلبك وضميرك في كلّ حال! القليل أو الكثير لا قيمة له، في ذاته، ولا هو المعيار! أما تعرف أنّ للرّبّ الأرض بكمالها، المسكونة وكلّ السّاكنين فيها؟! هو قادر أن يفعم المحتاجين خيرات، كما أطعم الخمسة الآلاف من الخمس الخبزات! القيمة هي لما تعطيه من قلبك ولحمك! بفلسَين ابتاعت الأرملة الملكوت! الإنسان قلب، يا حبيب الله!
ثمّ شركة المحبّة والألم مع الموجوعين تفتح لك باب الصّلاة! لسنا في صدد الخوض في الاجتماعيّات، بل في صدد تعاطي الرّوحيّات! في الرّوحيّات خبزٌ للجائع إلى الخبز المادّيّ، أوّلاً، لكن العين – وهذا الأهمّ – تتسمّر على الخبز النّازل من فوق! لا فصل بين الصّلاة الرّبّيّة والخبز الجوهريّ! الصّلاة بلا شركة صليب مجرّد طقوس خاوية! كلّ عمل لا يتكمّل في الصّلاة، بالحبّ، يبقينا في مستوى الرّماد، والدّعوةُ هي إلى الضّياء! الصّلاة يحرِّكها الشّوق! هذه هي السّلّم المصعِدة من محبّة إلى محبّة إلى المحبّة، الّتي هي الله عينُه! والصّلاة هي النّدى النّازل علينا من فوق ونحن في أتون تجارب هذا الدّهر! فمتى بلغنا حدّ الصّلاة في ما يحلّ بنا نَذُقِِ القيامةَ ونصعد في أبيض الشّهداء لنجلس عن يمين الله الآب!
كلام مجانين!! تمامًا! هذا ما علّمنا إيّاه آباؤنا أن نتعب لنقتني جنون محبّة الله والإخوة، والكلّ إخوة لنا من لدنه! هذه هي اللّؤلؤة ذات البهاء الإلهيّ الّتي نحن في إثرها، في كلّ حال!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
24 أب 2014