إزاء ما يطالعنا من أخبار حول الأزمة البيئية التي تهدد عالمنا، علينا نحن المسيحيين ان نطرح السؤال الآتي: هل ينبغي ان نشغل أنفسنا بما يُسمّى “الأزمة البيئية”؟ هنا نلاحظ وجود مواقف سلبية لدى المسيحيين في هذا الخصوص، فثمة من يعتقد ان غاية الكنيسة والإيمان هي خلاص النفوس وحدها، وان كل شيء مادي زائل وسيُبدل في ملكوت الله بعالم غير مادي وروحي. وثمة من يضع الأزمة البيئية في خانة المهمات السياسية والعلمية والتقنية ويرفض ان يكون للكنيسة واللاهوت دخل في هذا الموضوع، فالكنيسة واللاهوت نوع آخر من المهمات.
الا ان الأمر ليس بهذه السهولة، فالوعي المتزايد للأزمات البيئية التي تواجه العالم يتحدانا الى إيجاد سبل جديدة لعيش إيماننا والتعبير عنه والشهادة له ولرسالة الحياة والرجاء في المخلّص الذي أحبّ العالم بهذا المقدار حتى اتخذه وصار منه.
ان المسألة البيئية مرتبطة ارتباطاً قوياً بالمعنى الحقيقي لوجود الانسان. فالكتاب المقدس، في عهديه القديم والجديد، يتحدّث عن البيئة الطبيعية على المستوى اللاهوتي كخليقة الله، وعلى المستوى الأنثروبولوجي كمحيط يعيش فيه الانسان. وتتحدد علاقة الانسان بالطبيعة انطلاقاً من علاقته بالله خالقه. ففي الاصحاحين الأولين من كتاب التكوين اللذين يتكلمان عما قبل السقوط نجد آدم في تناغم مع الطبيعة، يهتم بالأرض ويحرثها من دون تعب، وهي تطعمه ولا يأكل الا من عشبها وثمرها. اما في ما بعد، اي بعد العصيان، وبعد ان صار الانسار غير قادر عى ان يكون في وحدة مع الله، توترت العلاقة بين الانسان وبين بيئته.
وفي روايات الكتاب المقدس عن الخلق يمكننا ان نلاحظ الآتي: 1) ان البشر خُلقوا بعد خلق العالم كله، وانهم كُوِّنوا من مواد الطبيعة؛ 2) ان الله خلق البشر على صورته ومثاله.
هذان الأمران دفعا آباء الكنيسة الى القول ان الانسان يشكّل صلة بين الله والعالم المادي، وهو يجسّد في “عالم صغير” الخليقة المادية كلها ويوحّدها بالله. من هنا يمكننا القول ان البشر خُلقوا لكي يوحدوا في ذواتهم العالم المادي بالله. يتضح من هذا انه لكي نفهم مكانتنا في الخليقة علينا ألا ننسى أمرين: 1) اننا جزء عضوي من الخليقة المادية ولا نُعقَل من دونها (يعني هذا انه اذا دُمِّر العالم سندمَّر نحن ايضا)؛ 2) اننا مصنوعون على صورة الله اي اننا نحمل ضمن الخليقة المادية ميزات تخص الله، حتى تكون للخليقة شركة مع الله وتحيا الى الأبد.
ونتيجة ذلك انه لا يمكن للانسان ان يحيا من دون بيئته الطبيعية، فهو يعتمد عليها على مستويين: المادي والروحي. فهو منها يتغذى ويأكل وفيها يتحرك، ومن خلالها وفيها يظهر له مجد الله من اعماله. وكذلك لا يمكن للبيئة الطبيعية ان تحيا من دون الانسان. قد يبدو هذا التأكيد غريبا اذا اخذنا بعين الاعتبار ان العالم كان موجوداً لأزمنة طويلة قبل الانسان. ولكن اذا نظرنا الى الخليقة المادية، ليس احصائياً، او تاريخياً، بل لاهوتيا وانقضائياً (أخروياً) نرى ان مصير الخليقة المادية النهائي مرتبط بالانسان. العالم خُلق للانسان والانسان للعالم. الجدير ذكره هنا ان المسيحية اذ تؤكد على مكانة الانسان الخاصة بعلاقته مع الله من جهة، ومع الخليقة من جهةٍ اخرى، ترفض ان تجعل الانسان مركز الكون. ففي التقليد المسيحي يصبح تسلُّط الانسان على العالم ممكنا فقط اذا كان الله في الصورة. فالمركز في الفهم المسيحي للعالم ليس الانسان بل الله. ففي سيد الكل وخالقهم وحده نتصل بعضنا ببعض وبكل الخليقة التي صنعها. وبصورته لنا سلطة على كل الخليقة، ليس لنمتلكها بل لنقدمها له.
ماذا علينا ان نفعل لمواجهة الازمة البيئية؟ الانسان القديم لم يفكر بالطبيعة على انها أداة بل كان متعايشاً معها، وهي ذاتها في جسده ينظر اليها على انها جمال. هذا غير موجود لدى انسان ما بعد الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر.
المطلوب ان يعود الانسان الى وحدته مع نفسه ومع العالم ومع الله. كيف يتحقق هذا؟ الاكتفاء بوضع قوانين تحمي البيئة حل غير كافٍ. الانسان قادر على رفض القوانين وهو قد لا يحترم القواعد الاخلاقية. الحلّ يتطلب تغيراً داخلياً. هكذا تصير مواجهة المشكلة البيئية امراً متصلا بعقلية الانسان ومـوقفه إزاء العالم والله. وهنا تبـرز مسـؤوليـة الكنيسـة. ففي الكنيسـة يعتـاد الشخص منـذ الطفولية ان يأخذ موقـفاً من المحيط الطبيعي والاجتماعي. هناك يتعلم ان يحترم المادة كعنصر عضويّ في علاقته مع الله، كما يقول القديس يوحنا الدمشقي.
لكي تحيا خليقة الله في الله كلٌّ منا مدعو الى توبة في انتظار استعلان ابناء الله. الخليقة تنتظر معنا، وهي ايضا ستفيق من عبودية الفساد وتصير سماءً جديدة وارضاً جديدة حيث يبني الساكنون بيوتاً ويسكنون فيها، ويغرسون كروماً ويأكلون اثمارها، والذئب والحَمََل يرعيان معاً، والاسد يأكل التبن كالبقر، اما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذُون ولا يُهلِكون في كل جبل قدسي، قال الرب (اشعيا 65).