الإيمان بالرّبّ يسوع شيء حيّ أو لا يكون. الإيمان علاقة. الله آخر وليس فكرة. يمتدّ صوبك لأنّه يحبّك ويدعوك لأن تمتدّ صوبه لأنّه يريد، لمحبّته لك، أن يُشركك فيما له، في حياته وحبّه وأنعامه. ولا علاقة، في المبدأ، قسريّة! تريدها أو لا تكون! رهن بك هي! ربّك إليك! أتريد أن تكون إليه؟
لا زغل في العلاقات. علاقة مزغولة تدمّر ذاتها بذاتها. إذًا، شرط العلاقة، لكي تنمو، الأمانة. وثبات الأمانة يكون بالثّقة. والثّقة تطرح الشّكّ إلى خارج. لذا، مَن تأمن له ترتاح له بالكامل. تعامله كنفسك. هو امتداد لك، وأنت امتداد له. هو كنفسك وأنت كنفسه. أنت وإيّاه واحد. هو منك وأنت منه. هو لك وأنت له. قوام علاقتك به التّسليم. هو الثّابت لأنّه ربّك. هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. المتغيِّر هو أنت إلى أن تَثبت، أو إلى أن يثبِّتك لثباتك. أقول هذا لأنّ ثباتك عرضة، دائمًا، لأن يكون قُلَّبًا إلى أن يُسبِغ عليك ربّك نعمةَ الثّبات من لدنه، متى أثبتّ أنّك في الأمانة، على قدر طاقة البشرة، ثابت!
على هذا، الأمانة تتروَّض عليها، وأنت مَروض عليها، إذا عرفت أن تُسْلِم نفسك بين يديه بالكامل، لا سيّما في الشّدائد. تدعوك نفسُك لأن تهرب لأنّك أوهى، في بشرتك، من أن تردّ الخوف عنك؟ رغم ذلك الزم موقعك! سلِّم، لا تستسلم! لا تقدر على ذلك؟ طبيعيّ! امتشق اسم ربِّك! اسمه يسوع لأنّه يخلِّصك! صارع الخوف يهرب منك! من حيث لا تدري تأتيك الغلبة! فقط متى عزمت وثبتّ تحلّ عليك روحُ القوّة! ثمّة لحظة حرجة ربُّك عارفُها، متى حلّت عليك تُحدث تغييرًا فيك! إنسانك العتيق يريدك أن تلوذ بالفرار! يُلحّ ويلحّ عليك! لا تستسلم! لن تطول معاناتك أكثر من وِسعك، ثمّ تشتملك حضرة ربّك! هذه معركتك! ثمّة مَن يقول لك في الشّدّة: لا خلاص لكَ بإلهك! وثمّة مَن يذكّرك بقول ربّك: “إلى الرّبّ صرخت في ضيقي فاستجاب لي” (مزمور 119: 1)! لا يسمح الرّبّ بالضّيق عليك إلاّ لأنّه يريد لك أن تكبر في النّعمة والقامة! الحرب للرّجال والحرب تصنع الرّجال! وحرب الحروب أن تقاوم تسلّط إنسانك العتيق حتّى لا يُطبق عليك! ليست مصارعتنا مع لحم ودم بل على ظلمة هذا الدّهر (أفسس 6: 12)! ما النّفع إن قهرتَ أممًا وأركعت أعداء وقمعت مقاومين وبقيت مستأسَرًا لعرش أنانيّتك وسيف عداواتك؟ عروش الأنانيّات يضرب أحدها الآخر حتّى الفناء، ومَن يأخذ بالسّيف بالسّيف يؤخَذ!
لذا إن داهمتك شدّة فاعلم أنّ ربّك قريب! المياه الرّاكدة الله يمجّها! أوقات الرّغد والرّاحة لا تلبث أن تَأْسُنَ! لذا إن طالت تؤذي وإن رغب فيها المرء يَفْسُد! يعزّيك ربّك بسحابات من رحمته لا لتتبلّد وتبطر، بل لتشكر وتتيقّن أنّ ربّك إليك، وتتهيّأ للسّحابات السّود والبرق والرّعد المقبل عليك! الفردوس ليس هنا. فقط تذوقه هنا. والباقي حرب إليه! بين تجربة وتعزية، بين مرض وبرء، بين تلبّد وانقشاع، يشتدّ ساعدُك وتقوى على أهوائك وتركن إلى ربّك حبيبًا، إلى أن تبلغ ملء قامة مسيحك!
هذا زمن الرّخاء والرّخاوة، لذا لا رجال للحرب الرّوحيّة، بعد، إلاّ النّدرة! لا غلبة للأيدي الرّخوة! ليست الحرب للصّبية! لا مَن يبالي، بعد، بأن يردّ عنه سهام الأرواح الّتي في الهواء، وعن العالم! ألفنا المفاسد! استحال الإيمان عواطف عابرات! وهنت الصّلاة حتّى الاضمحلال! الوصايا سُيِّبت! الإلهيّات انهجرت! العبادات استوثنت! التّقويّات تمظهرت! كيف تردُّ النّاس إلى جادة الصّواب؟ هذا الشّعب يعبدني بشفتيه، أمّا قلبه فمبتعد عنّي بعيدًا! وما يقبل ربُّك بأقلّ من استرداد شعب جسده! هوذا واقف عند قبر لعازر يبكي!
ليس غير الشّدة جوابًا! مَن لا يحمل على نفسه بنفسه عنفًا فإنّه لا يحفظ، في زمن التّهاون، نفسَه. يتفه، من جهة الأمانة لله، إذ ذاك، تفهًا! ولأنّ ربّك غيور على سلامة قلبك يسلمك عنوة إلى الضّيق! إمّا تُسلِم نفسك لضيق طوعيّ بالنّسك، وإمّا تجدك مُسلَّمًا لضيق قسريّ! بلا صليب لا قيامة، وبلا دم لا روح! هذا زمن الشّدّة لأنّه زمن الخلاص بامتياز! ليس ربّك عبثيًّا! لا إمكان سير في سبل البَرَكة ما لم تعِ أنّ الخطيئة توجِع! تتعاطاها كتعبير عن حرّيّتك، فلا يبقى لك إلاّ الألم يرتدّ عليك منها فتعرفها على حقيقتها! ساعتذاك يتسنّى لك أن تخرج منها إن كنت لتخرج!
ومتى لاحت الشّدّة في الأفق فلا تجعل هرب قايين من وجه ربّه لك نموذجًا. إذا لم تعِ وتفد من أنّ ربّك آتيك في النّسيم العليل فإنّه مسلِّط عليك آشور الفكريّة، لا محالة، كما على حزقيا الملك، زمن إشعياء النّبيّ، حتّى تتّضع كما اتّضع! في الشّدّة، لك أن تتوب بالمسوح والرّماد، أي من كلّ القلب، وإلاّ تهلك! يملّ ربّك الصّبرَ متى استبان الصّبرُ لا يجدي، ويأتيك مزمجرًا في وحوش الأرض! الأمم قضيب المؤمنين لكي تبقى الكنيسة بَرَكة الأمم لتخمير الأمم! لذا الحثّ هو على التّوبة. توبوا إليّ أتُب عليكم. من القلب توبوا، لا تُماروا! العصا للإرعواء! لا انتقام عند ربِّك، ولا تَخَلٍّ!
بعد ذلك، في التّوبة الصّدوق تعاين مجد ربّك. ييسِّر لك كلّ حاجة، في حينها، ولا تُسَيَّب للصّدف كما يظنّ الّذين لا يؤمنون. بقدر ما تُسْلِم نفسَك بنفس القدر يعتني بك. تُخِلّ، ولو بنأمة في القلب، تختلّ عنايتُه! كأنّك بإزاء عمل آليّ وليس بآلة؛ كالمرأة النّازفة الّتي قالت في نفسها عن يسوع: إن مسست ولو هدب ثوبه شُفيت؛ فخرجت قوّةٌ من يسوع، تلقاءً، وشفتها. الله حاضر لنا أكثر من الآلة إلينا وأكثر منها، بما لا يقاس، ضَبْطًا لكلّ حركة! يصيب الآلةَ الخللُ أمّا ربُّك فإن لم تُخِلَّ في الأمانة، فلا آمن!
قرأتُ فصلاً من أخبار أبينا المكرَّم الذِّكر بائيسيوس أبان فيه أنّ ربّك، لمَن حفظ له الأمانة، ولا أدقّ في كلّ تفصيل. دونك هذه الرّواية المعبِّرة. إنسان، رجل شرطة بلديّ، كان له تسعة أولاد. يسير كلّ يوم أربع ساعات ليذهب إلى خدمته وأربع ساعات ليعود إلى بيته. دير ستوميون، حيث أقام الأب بائيسيوس ردحًا، كان في منتصف الطّريق. ولقد اعتاد الشّرطيّ أن يميل إلى الدّير في جيئه وذهابه، ليضيء القناديل. وكان، بخاصّة، يتوقّف عند قنديل والدة الإله. يركع ويبكي ويسأل العون لأولاده التّسعة، بعضَ لحمٍ. ثمّ كان يغادر باتّجاه بيته. وما إن يصل على بعد ثلاثمائة متر من الدّير حتّى يطلق طلقًا ناريًّا وحيدًا. لم يدرِ الأب بائيسيوس، أوّل الأمر، ما الّذي كان يحدث. ثمّ تبيّن له أنّ الأمر كان يتكرّر كلّ يوم. ولمّا استطلع عرف أنّ الشّرطيّ كلّما كان يصل إلى نقطة محدّدة، بعد الدّير، كان يجد عنزة برّيّة بانتظاره، فيطلق عليها رصاصة واحدة، ثمّ يأخذها ويسلخها ويحمل لحمها طعامًا لأهل بيته. هذا كان يحدث كلّ يوم وفي نفس المكان وبنفس الطّريقة!
ربّك يُعدّ لك كلّ شيء في أوانه. فقط تسلك بمخافته، تحفظ الأمانة له، تسلمه نفسك، وتقاوم كلّ شكّ يأتي عليك فيه. الأمر، في مطلعه، متعب ثقيل، ثمّ تأتيك التّعزية لتثبِّت جهدك؛ وهكذا تلقاك تتعاطى ربَّك حيًّا فيتعاطاك حبيبًا، قرّة عينه!
لذا ما كانت الشّدّة تخلّيًّا من ربِّك عنك بل إقبالٌ أشدّ، من قِبَله، عليك لأنّك أنت تخلّيتَ عنه! أما سمعت أنّه حيثما اشتدّت التّجربة ازدادت النّعمة جدًّا. هذا ليس فقط لتستطيعوا أن تحتملوا، بل لتعلموا، بالأكثر، أنّ ربّكم، في كلّ حال، إليكم! محبّته في اليسر تأتي وفي العسر تزيد لأنّه أخي وأختي وأمّي! تفيض محبّة الأمّ على ثمرة حشاها المريضة فكيف بربِّك على ثمرة روحه؟! كلّ شيء يعمل معًا للخير للّذين يحبّون الله! والّذين يحبّونه هم الّذين يَعلم ربّهم، بالأكثر، أنّهم قادرون على محبّته، لكنّهم يؤخذون بأحابيل الشّرّير، في هذا الدّهر، ضلالاً!
ما نعبر به اليوم، صعب؟ صعب جدًّا!! ولكن قسوة القلب أصعب! الجسد بلغ أكثرُه المرضَ من الرّأس حتّى أخمص القدمين! لذا الشّدّة أمامك والرّجاء وراءك، وإلى يمينك كثافة حضور ربّك وعن يسارك ملائكته! أنت محاط، من كلّ صوب، بأنعام الله، ولو بدت وحوش الأرض مفلَّتةً عليك، اليوم أو غدًا! مَن معنا، يا حبيب الله، ويا بؤبؤ عينه، أقوى، بما لا يقاس، ممّن علينا!
خلاصُنا، الآن، بات، إلينا، أدنى ممّا كان حين آمنّا!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
31 أب 2014