هل يجوز، مسيحيًّا، اللجوء إلى العنف في سبيل مقاومة الشرّ؟ هذا السؤال يطرحه معظم المسيحيّين في بلادنا، وبخاصّة في ظلّ انعدام أيّ وسيلة لاعنفيّة لإيقاف الإبادة الجماعيّة والقتل المجّانيّ والتهجير القسريّ.
المسيحيّ مدعوّ إلى الاقتداء بسيّده المسيح الذي غفر لصالبيه قائلاً: “يا أبتِ اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ما يفعلون”. لكن هل كان المسيح ليقول القول عينه لو كان المصلوب أحدًا سواه؟ لعمري كان المسيح ليحمل السوط مدافعًا عن المعتدى عليه، وكان لينزله عن الصليب ويضمّد جراحاته ويرفع عنه القهر والمعاناة.
صحيح أنّ المسيح قال: “أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم” (متّى 5، 44). لكنّه لم يقل أحبّوا الشرّ الذي يصنعونه، وحاشا له أن يقول ذلك. أن يحبّ المرء عدوّه المحبّة الصادقة هي أن يردعه عن الشرّ الكامن فيه. المحبّة الحقّ تفترض التصدّي للأشرار والظالمين والمعتدين. المحبّة توجب مقاومة الشرّ والقضاء عليه، لا مهادنته والاستسلام أمامه.
لا تنفي الوصيّة بـ”محبّة الأعداء” الوصيّة الأخرى بمحبّة الذين أقامنا الله مسؤولين عنهم، أيّ الفقراء والمضطهَدين والمعذَّبين في الأرض: “إنْ كلّ ما لم تصنعوه إلى أحد هؤلاء الصغار فإليّ لم تصنعوه” (متّى 25، 45). وقد عبّر أمبروسيوس أسقف ميلانو (+397) أفضل تعبير عن هذه الآية الإنجيليّة بقوله: “إنّ الذي لا يصدّ الظلم الذي يهدّد أخاه، في حين أنّه قادر على ذلك، لا يقلّ ذنبًا عن الذي يقترف الظلم”.
يؤكّد اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ كوستي بندلي في كتابه “نضال عنفيّ ونضال لاعنفيّ لإحقاق العدالة” (منشورات النور، بيروت، 1988) أنّ النضال اللاعنفيّ هو الصيغة المثلى للمقاومة، ذلك أنّه يحقّق الانسجام بين الهدف والوسائل، فيستبق تحقيق الهدف عبر الوسائل عينها. ويضيف بندلي أنّه لا يجوز إضفاء صفة الإطلاق على النضال اللاعنفيّ بحيث ينتفي مبدئيًّا وقطعيًّا كلّ سبيل عنفيّ للنضال.
بيد أنّ المسيحيّ إذا توصّل إلى القناعة بأنّ النضال العنفيّ هو السبيل الوحيد لإحقاق العدالة، فيشترط بندلي عليه التقيّد ببعض القواعد التي تبعد هذا النضال عن الانحراف عن خطّه الأصليّ والوقوع في شهوة التدمير العبثيّ والقتل المجّانيّ. أمّا أهم هذه القواعد فهي حصر العنف في هدف إزالة الظلم والقهر والعدوان، وبعد إزالتها الغفران والمصالحة والسلام. لا يجوز، إذًا، اعتماد العنف منهجًا والانسياق وراءه من دون قيد أو شرط، ولو اقتضت ظروف التاريخ القاسية استعماله أحيانًا لردع الطغيان والظلم والعدوان.
يخلص كوستي بندلي إلى الاستنتاج أنّ الخيار بين الأساليب العنفيّة أو اللاعنفيّة للنضال لا يمكن أن يقوم على مجرّد الموقف المبدئيّ، بل ينبغي أن يراعي ضرورات الواقع والسياق التاريخيّ. فمتى استفحل الشرّ واستعصى، فإنّه لا يترك خيارًا آخر لمواجهته بسوى النضال المسلّح. ويعطي مثالين على ذلك الأمر، هما النازيّة والصهيونيّة.
الحركات التكفيريّة التي تعيث فسادًا في الأرض وتستبيح دماء الأبرياء والعزّل، عدا عن كونها تماثل النازيّة والصهيونيّة في العنصريّة، لا يقلّ خطرها عن خطرهما. غير أنّ مواجهة هذه الحركات التكفيريّة ينبغي أن تنأى بنفسها عن الطائفيّة والمذهبيّة، فأيّ تشكيل طائفيّ في مواجهة الحركات التكفيريّة إنّما يصبّ في مصلحتها. وهل ثمّة مؤسّسة وطنيّة جامعة عابرة للطوائف والمذاهب قادرة على استئصال المفسدين في الأرض سوى الجيش؟
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 10 أيلول 2014