كعادته في كل سنة، تحلّق مركز بيروت، كبارا وصغارا، حول المتروبوليت جورج خضر وتناولوا معه العشاء في برمانا. وشارك فيه فرق العائلات والعاملين والجامعيين.
وقال الأخ رامي حصني شهادة في المطران خضر وهذا نصُّها:
اللقاء الأول
أوّل لقاءٍ لي بصاحبِ السيادةِ أذكُرُه. كان ذلك خلالَ محاضرةٍ حول الصليب والقيامةِ في بيت الحركة الميناء. كنتُ في عمر المراهَقة آنذاك، لقد طُبعَت في ذاكرتي حيويّةُ هذا الإنسان، الذي يتكلّمُ بسلطانٍ، بنبراتِ صوتِه، وعينيه، ويديه. وأحسست للمرّةِ الأولى بحيويّةِ الإيمان بالصليب، وأنّ القيامةَ حصلت على الصليب، وعلى الصليب أَسلمَ يسوع الروح القدس. ومُذّاك، أصبح الصَلْبُ بالنسبة لي حدثًا جرى في زمن مضى، لكنّه حياةٌ مستمرةٌ لا تنقطع.
تأمّلات فصحيّة حفظتها غيباً
بعد ذلك بفترةٍ وجيزةٍ، أهداني صديقي شريطَ كاسيت يحتوي على تراتيلَ تؤدّيها جوقةُ الجبل، تصحبُها تأملاتٌ يتلوها سيادتُه.
دار هذا الكاسيت في مسجِّلتي عشراتِ وعشراتِ المرّات، حتّى حفظتُ التأّملاتِ عن ظَهْرِ قَلْب، وكنت أُردِّدُها في جلَساتنا مع صديقي بلُكْنَةِ سيّدِنا.
وحَدَثَ أن زارني أحدُ الرفاقِ، وكان الكاسيت يدور في المنزل، فأُعجِبَ به وطلب مني استعارتَه… وكانت تلك آخر مرّة “أعير” فيها شيئاً…
لحسن الحظ كنت قد حفظتُه غيباً
وبعد حوالى عشر سنين، أهداني صديقٌ آخرُ كتابَ نجاوى الذي صدرَ للتوّ. وكم كانت فرحتي كبيرةً لأنّ الcd في جيب الكتاب، يحتوي على التأملات، التي أضعتُها قبل عشرة أعوام. وبما أنّه CD، فإنّي أنسخه وأعيره لمن يشاء.
رعيّتي والنهار
أمّا مقالات سيّدنا، فهي زادٌ لي للأسبوعِ كلِّه، فمقالُه في رعيّتي هو كالمطالبسي بالنسبة لي، ومقالُه في النّهار “ترويقة السبت الصبح”!
وممّا يذهلُني في مقالات سيادتِه أمران
الأولُ هو تلاحمُ النص، من بدايتِهِ إلى نهايتِه، بحيث يعجزك أن تَحْذِفَ جملةً، لارتباطها الوثيقِ بسابقتها، وتمهيدها لما يتبعها.
والأمر الثاني، هو أنّك لا تستطيع أن تجد مقالاً واحداً يخلو من تعبيرٍ يشبه “النعمةَ الهابطةَ عليك من فوق” أو “الموهبةَ المنسكبةَ من العلى”… وهذا علّمني التواضعَ، وأنْ لا افتخارَ بالنفس بل بالله، وقد ذكر سيّدُنا في كتاب “هذا العالم لا يكفي” أنّ أمنيتَه لم تكن الأسقفيّةَ، بل بوابٌ في دير ما، لا يُعرفُ اسمُه حتّى… أشكر الربَّ أنّه لم يستطع أن يحقِّقَ هذه الامنيَة!
قلبُ طفلٍ
حادثة ٌأخرى جرت أثناء إقامتي في باريس: زارنا مرّةً سيدنا في رعيتنا هناك، فقدَّم له الأولاد الذين من أصولٍ لبنانيّةٍ وسوريّة باقةَ تراتيلَ وأغانٍ كانوا قد حضَّروها للمناسبة. وأثناءَ تأديتِهم لها بأصواتهم الملائكيّة، رأيت دمعتين تسيلان على وجنتيه، فهمست في أذنِهِ سائِلاً عمّا يبْكيه
فأجابَني: نحنُ شَعْبٌ كُتِبَ عليه الشتات!
فقلْتُ: تعلّمنا منك سيدنا أنّ كلَّ الأوطانِ أوطانُنا
فقالَ وقدِ اغرورقَتْ عيناه: آه! آه أنا تألَّمْتُ في بَشَرَتي…
أدركت حينَذاك، أنّ هذا الِمطرانَ، ذا النظرةِ الزرقاء الصارمة، وأنّ هذا اللاهوتيَّ الذي يتكلم بسلطان، ما زال يمتلك قلبَ طفلٍ يدلُّنا إلى الملكوت السماويّ.
لقاء لاهوتيّين ِمن هذا العصر
إسمحوا لي أن أذكر حادثة أخرى، صودِفَ في باريس ان اصطحبت سيادته لعيادة صديقه اللاهوتي أوليفيه كليمان، في أسابيع حياته الأخيرة. وكان أوليفيه الذي أصبحَتْ يدُهُ عاجزَةً عن الكتابة، يقضي وقته في تأمّل أيقونة الضابط الكل الموضوعة في المكتبة أمام عينيه، والأيقونَةُ أيضا تتأمَّلُه. لقد دار حوار بين اللاهوتيِّ الشرقيِّ واللاهوتِيِّ الغربِيِّ، تحادثا فيه عن الإسلام وطبيعتِه، وعنِ اللهِ والمصائبِ والألمِ … خلال ذلك الحوارِ انتابني ما اختلج في صدر الرسل أوانَ التجلي في ثابور، جيّدٌ أن نكونَ ههنا لنَنْصِبَنَّ خَيْمِةً ونمكثْ في هذا النورِ.
دعاء
شكرا سيدي، وشكرا لله على كلّ هذه النعمِ الهابطةِ عليك. أَسألُ السيّد المصلوب أن يمدَّكَ بسنينَ طوالٍ طوال. فنَحْنُ بحاجةٍ إلى كلماتك لِتُعلِّمَنا التّجوال في النور.