من أراد أن يتبعني – المطران جورج (خضر)
يبدأ إنجيل اليوم بقول الرب: “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. وقد أكّد الكتاب أن من أراد ان يخلّص نفسه يُهلكها، وبالعكس من أهلك نفسه من أجل الرب ومن أجل إنجيله يخلّصها.
كثيرون يريدون أن يتبعوا الرب. نحن الذين نشأنا مسيحيين أظهرنا بشكل او بآخر أننا نريد ذلك. عندما نأتي الى الكنيسة نُظهر بالأقل نيّة لاتباع المسيح. ولكن كثيرًا ما نكون كبقية الأمم اي اننا نحتسب ان ديانة يسوع تقوم بطقوس نتبعها او ببعض إحسان نكفّر به عن ذنوب. نظنّ ان المسيحية مراسم، إشارات مع صلوات وإنشاد، اي اننا نتصرف وكأن رسالة يسوع لا تكلّفنا الكثير.
لا شك ان ذلك كلّه حسَن، ولكنه في آخر المطاف لا يكلّف الجهد الكبير. يسوع يريد أكثر من الأعمال الظاهرة، بل يريد أكثر من النية الطيبة والعزم المخْلص. انه يطلب تحويلا كليا للكيان، يريد أن نسلّم النفس اليه تسليمًا كليا بحيث لا تبقى ساعة لنا وساعة لربنا، بحيث تكون الروح في أعماقها وبكل جوارحها لربها، بحيث ينسى الانسان نفسه نسيًا كليا، بحيث يذهب الى الموت اذا لزم ذلك. ولهذا لم يقل سيدنا انه ينبغي ان نكفر بشيء من المال او بشيء من الوقت، ولم يقل انه ينبغي ان نكفر بأحبائنا وأصدقائنا فقط، ولكنه ذهب الى أبعد من هذا وقال: ينبغي ان نكفر بهذا الأساس الذي تنبع منه كل محبة للأرض وكل تعلّق بالذات. ينبغي ان نكفر بالحياة كلها.
من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه اي فليُنكرها، ليبذل هذا الشيء الصميميّ الداخلي الذي يحبّه. يسوع يدعونا الى أن نتخلّى عن الأنا. صوّر لنا يسوع الحياة على انها صراع بين “أنا” نحبّه وبينه هو. المال الذي نتمسك به، والمجد الذي نسعى اليه، والمحبات التي نُدغدغها، كل هذا هو الأنا. هذا الصميم بذاته هو الذي لا نريده ان يذهب. ولذلك جاء يسوع ليضرب العمق، ليقتلع أصل الشيء، وقد واجهنا بهذا القول العظيم: “ماذا ينتفع الانسانُ لو ربح العالم كله وخسر نفسه، أَم ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه”.
ان القاعدة التي لا تخطئ والتي لا تُرَدّ هي أن الانسان عبد للخطيئة التي يصنع، وهو بالبرّ الذي يصنع. الانسان عبد عندما يحب الأشياء التي تزول. انه يستطيع ان يكون ملكًا على عرش ومع ذلك قد يكون عبدًا. ويستطيع ان يكون في السجن ومع ذلك قد يكون حرًّا. العبودية ليست نظام العبيد، والحرية ليست نظام الأحرار لأن من نسمّيهم أحرارا قد يكونون عبيدا.
ان يسوع يضرب جذور الخطيئة اي شهوة النفس. إن أردنا ان نكون على ديانة الصليب، سعينا الى الحرية الداخلية التي لا يراها أحد بحيث نتطهّر من أصول البغض، من أصول الاشتهاء.
ان الكنيسة تقرأ علينا طيلة هذا الموسم قراءات عدة تذكّرنا فيها بهذا الصليب الذي هو وسط إيماننا وصورته. وهذا لا يعني ان السيد أتى ليعذّبنا او ليُعدّنا الى الآلام. الآلام الحقيقية هي التي نصطنعها نحن اي آلام الجسد، وآلامنا المعذّبة ليست شيئا إن ارتضيناها صابرين وأَسلمنا للرب يسوع. ولكن الآلام المفتعلة، آلام الشهوة هي التي تحزّ في النفس حقيقة وتُبعدنا عن الله. الخطيئة وحدها في آخر التحليل هي المؤلمة لأنها هي التي تُكبّل النفس وتستعبد الانسان وتستغلّه.
إن شئنا ان نقطف ثمار عيد الصليب، إن أردنا ان نكون مرتفعين مع السيد الى أبيه والى المجد الحقيقي، كان علينا أن نفهم أن صراعنا هو مع الإنسان العتيق الفاسد الكامن فينا الذي يستيقظ حينا بعد حين ليقضي على الانسان الإلهي، ليشوّه صورة الرب فينا.
جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)
نشرة رعيتي
21 أيلول 2014