ربّاه رحماك!- الأرشمندريت توما (بيطار)
أنا وأنت خاطئان!. هذا واقعنا!. ليس أحدٌ منّا خارجَ مدار الخطيئة!. إذًا، ليس، في العمق، ثمّة مذنِبٍ ومذنَبٍ إليه إلاّ وضعًا، لأنّه لا بريء!. رائحة الموت في الخياشيم!. ومع ذلك الكلُّ، بلا استثناء، ضحيّة!. لذا لا يستحقّ أيّ خاطئ الأذى!. تكفيه خطيئتُه أذًى!. المضروب ضحيّة مَن ضربه؛ ومَن ضربه ضحيّة مَن أضلّه!. هذا يجعل أنّه في الخطيئة لا حقّ لأحد لأنّ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله!. في الخطيئة، عمليًّا، جريح بحاجة لسامريّ!. فقط إن تسلك كسامريّ تكنْ في الحقّ!. والسّامريّ صورة المسيحِ يسوع وخادمِ يسوع المسيح!. بلى، لا القاتل على حقّ ولا حتّى المقتول؛ لا السّارق ولا المسروق؛ لا الظّالم، ظاهرًا، ولا المظلوم!. الخطيئة للخاطئ سيرة حياة ناشزة!. بكلّ أسف، لأنّه لا يعرف إلاّها!. الخطيئة تلوّثٌ!. الخطيئة مرض!. والمريض بحاجة لشفاء، لرحمة، لا لإدانة!. والخطيئة، إلى ذلك، ملهاةُ عبثٍ للخاطئ، من حيث يدري ولا يدري!. داوني بالّتي كانت هي الدّاء!. الخطيئة، بكلمة، إدمان، لذّةٌ ولو فاسدة!. لولا الخطيئة للخاطئ، في الحال الّتي هو فيها، لمات سأمًا، لأنّه ليس له شيء آخر يعيش من أجله!. هي تعزيتُه الوحيدة في عطبه!. عَطِشٌ يلحس دم نفسه!. هذا هو!. لذا لا النّظمُ ولا السّياسات ولا القوانين علاجٌ للنّاس، من حيث هم خطأة، بل الرّحمة!.
في الظّاهر، النّظم تَحُدّ من التّعدّي!. ربّما عدد القتلى يقلّ وكذا عدد السّرقات وما إليها!. ولكنْ، أتَزيد أعمال الرّحمة بالنّظم؟!. عمليًّا، النّظم تكرّس الاستغناء عن أعمال الرّحمة!. يصير النّاس أقلّ رحمة لأنّ اعتمادهم يصير على القوانين!. يستحيل الإنسان كائنًا مُتَقوننًا!. يسلك، في أحسن الحالات، وفق ما تحدّده القوانين، ولو خوفًا!. تمسي الرّحمة، بمعنى، مشاغِبة على النّظام!. لذا، في الدّول، المعتَبَرة متحضِّرة، تَترك الجريحَ في الطّريق ينزف حتّى الموت ولا تمسّه تحت طائلة الملاحقة القانونيّة لأسباب تبدو، في المبدأ، عملانيّة!. والجريح، نفسُه، قد يدّعي عليك بالتّعدّي، إن حاولت إسعافَه!. لا يقدِّر، بعد، عمل الرّحمة من لدنك!. ما يُسمَّى: “حقوق الإنسان” استغناءٌ براغماتيّ نصِّي عن بادرات الرّحمة ابتغاء حرّيّات برّاقة، ولكن جوفاء!. دونك حرّيّة التّعبير!. ما همَّني إن أقررتَ لي بحقّي في حرّيّة التّعبير، وما كان في تعبيري ما ينفع النّاس وما يزكّي الرّحمة بالنّاس!. الكلمة عملةٌ ذات وجهين!. قد تبني، لا شكّ في ذلك، لكنّها، أيضًا، قد تُفسِد وقد تدمِّر!. ليس الهمّ أن تعبِّر ولو لغوًا وتفهًا، بل لماذا تعبِّر؟ وكيف تعبِّر؟ أن تفيد!.
الخاطئ، بخلاف ما يُظنّ، ليس عدوّ الله، بل حبيبُ الله!. لذا ما لم ترأفوا بالخطأة فلا نصيب لكم مع الله لأنّكم لا تماثلونه!. إن لم يَزِد برّكم على الكتبة والفرّيسيّين (رمز الخطيئة) فلن تدخلوا ملكوت السّموات (متّى 5: 20)!. تصنيف النّاس ذئابًا وخرافًا غير مُنصِف!. ليس اللهُ إلهَ الخراف المزعومة خرافًا دون الذّئاب!. الخلق كلُّهم عيال الله!. والذّئاب، والحقّ يقال، أدنى إلى قلبه لأنّهم أنأى عنه!. في وَجَعِه عليهم حدّةٌ حتّى يُشفَوا!. لذا مَن نَسب لله الحقَّ، تبريرًا، في ذئبيّة الذِّئاب كَفَر به، ومَن قَصَره على الخرافيّة أنكر حبّه!. نسبةُ الوحشيّة لله، تبريرًا لكلّ فعل سوء، شرود ووَحْشَةٌ في تعاطي الله!. غربتُكَ عن أن ترحم النّاس غربةٌ عن رحمة الله!. وما الله بقاتول بل شهوتُك؛ بها تقتل الله وصغارَ الله باسم الله!. الصّغار هم الأضعفون في الأرض!. هؤلاء ربّهم ضامنُهم لا راذلُهم!. فإن عمي قلبُك وألَّهتَ هواك أقمْتَ في التّخلِّي، فبات صدقُك كذبًا وكذبُك صدقًا!. ما تزرعه إيّاه تحصد وما تبنيه فيه تقيم!. لا تجعل ربَّك على صورة جحيم نفسك!. اجعل نفسك على صورة فردوس ربِّك!.
آدم، هنا، على الأرض، موهبتُه، في إطار الخطيئة، البكاء حتّى يعتمد بدموع الحبّ لربِّه!. البكاء يرقّقه، يعلِّمه المحبّة، والمحبّة تجعل أنهارَ ماء حيّ نعمويّة تجري من بطنه!. لا يستحقّ أخوك، مهما استرسل في خطاياه، ما هو أقلّ من دموعك عليه!. “أحشائي، أحشائي!. توجعني جدرانُ قلبي. يئنّ فيّ قلبي. لا أستطيع السّكوت…” (إرميا 4: 19)!. مضى الحصاد، انتهى الصّيف ونحن لم نخلص… أليس بَلَسانٌ في جِلعَاد، أم ليس هناك طبيب؟ فلِمَ لمْ تُعصَبْ بنتُ شعبي؟!.
حقّ محبّتك عليّ، اللهمّ، أن أذرف الدّمع مدرارًا على العالم حتّى تنطفئ نارُ إخوتي!. أنا كاوي جراحهم بلهب محبّتي إيّاهم!. ساعتذاك، فقط، أنام وأستريح!. كيف أستريح وقريبي في التّعب؟!. وأنا مطالعُك، ربّي، في النّزْف، مشبوحًا على الصّليب، مخنوقًا، تشدّك المسامير إلى الجحيم كما لتَعُبّ في جسدك وروحك كلَّ جحائم النّاس!. إذ ذاك تكون لك قيامة فيهم وتصير لهم قيامة إليك!. حربي الضّروس أن أقتبل الاختناق المحيي، كلّ يوم، على الأحبّة المسيَّبين، كمَن لا رعاة لهم، مدًّا لمحبّتك المخنوقة عليهم، اللهمّ، حتّى الموت!. علّمني، في وهني، ربّاه، أن أعمل رضاك!.
مصلوبيّة محبّتك، سيّداه، سيرتي، لو كنتُ أدري!. لكنّي غبيّ ولا معرفة عندي!.
هذه شهادة عبيدك بالصّلاة والصّوم!. علّمني أن أعمل في كَرْمك!. خذ قليل التّراب والرّماد، الّذي أنا إيّاه، واجعل منّي، الخزفَ، آنيةً لروحك!. أعطيتني أن أكون في عملك شريكًا، فكن لي، في قصوري، معينًا!. لا أعرف شيئًا!. لكنّي أريد!. فلتُقم حكمتُك في جهلي، وقوّتُك في ضعفي، وحسُّك في ضموري وضميري!.
كيف نحكمنّ على القاتل ولمّا يُضَخَّ، بالأكثر، في تنشئته، في قلبه، غير القيح؟!. كلٌّ يقتات من الخبز المدفوع إليه!. أيأكل أحدٌ الحصى ولديه طراوات الخبز والزّيت والزّيتون؟!. أنحسب الزّاني عائبًا ولمّا يُحشَ إلاّ من روح الزّنا؟!. لو كان قد تمّلأ من المحبّات والعفاف أكان أسلم نفسَه للفجور؟!. مَن تراه ارتاض البهاء ويقيم في الأوحال؟!. مَن أنا لأحكم عليك؟!. أنا أسوأ منك، ما دمتُ لا اتّخذك بمحبّة الله!. فحيث لا محبّة تُفعِم القلبَ، تسود الخطيئةُ، أَرْتَكَبَ المرءُ قتلاً بخنجرُ أم لا!. خنجر اللاّمبالاة أمضَى!. ولو لم آتِ زنًا بجسدي، أما آتيه بروحي إن سهوتُ عن إلهي وإخوتي؟!.
ما يضنيني ليس، فقط، أنّي خاطئ، بل، بالأَولى، أنّي لا أحسّ بأنّ خطيئتي تشرّدني!. وإن فطنت لشرودي لست أعي كيف أقوِّم ذاتي!. كيف أُقيم نفسي من جبّي؟!. مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟!. وتعطونني وصيّةً، لست أدري كثيرًا ما أفعل بها!. لديّ مركبة لست أعرف كيف أسيِّرها ولا كيف أصعد بها إلى فوق!. النّعمةَ، النّعمةَ، إلهي، حتّى أتغيّر ولا أفنى!.
أريد رحمة!. رحماتك، إلهي، حتّى أدرك ما أنا فيه، حتّى أحسّ به في لحمي وعظمي وأعصابي وكلّ أهل الأرض!. إلى أين أذهب؟!. لست أرى مذهبًا إلا خطيئتي اعتدتُها فصارت عشيرتي!. لا تُدنّي يا إلهي!. أعطني أن أعرفك حتّى أعود إليك!. في فمي مرارة استحليتُها فزجّتني في أسْر أهوائي!. حاجتي لأن أصير جديدًا!. أنت وحدك جِدّتي لأنّك آدم الجديد، وأنا سنديانة مشلّعة ترنو إلى أفضالك حتّى تجمعها وإخوتي إليك!. رحماك ربّي!. لا تصرف وجهك عن عبيدك فإنّا حزانى، انظر إلى نفوسنا وخلّصها!. أنا غريب، فأعطني أولئك الغرباء، وخذنا إليك، اللّهمّ، ولو مرغَمين، حتّى لا يسودنا الجهل والغباء والموت!!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
21 أيلول 2014