قلّما اجتمع اللبنانيّون من كلّ الطوائف، والشباب منهم بخاصّة، على تقدير أحد رجال الدين كما اجتمعوا على محبّة السيّد هاني فحص. فمن السهل على رجل الدين أن يستقطب أبناء ملّته، ولكن من العسير أن يحظى بإجماع كلّ المواطنين، مسلمين ومسيحيّين وغير متديّنين… وقد استطاع السيّد أن يكون عابرًا للطوائف في زمن ساد فيه الاستقطاب الطائفيّ، والسعي الحثيث إلى إيقاظ الفتنة. حارب الانغلاق والشحن المذهبيّ، وكان داعية إلى الاعتدال والانفتاح على الآخر واحترام التنوّع الدينيّ والثقافيّ.
ظلّ السيّد هاني، في أشدّ الظروف ظلمة، في تواصل دائم مع الساعين إلى السلام الحقيقيّ في لبنان. وسار، كسائر رفقائه من المؤمنين بالحوار، بعكس التيّارات السائدة في طوائفهم ومجتمعاتهم، في سبيل تعاقد وطنيّ سليم يجمع اللبنانيّين كافّة على أسس راسخة تطوي الصفحات السود إلى الأبد، ويؤسّس لوطن يتساوى فيه جميع اللبنانيّين على قاعدة المواطنة الكريمة.
آمن السيّد هاني بالحوار الإسلاميّ المسيحيّ وبأهمّيّته في إزالة الشوائب التي تعتري العلاقات بين أهل الأديان والطوائف والمذاهب، وفي ترسيخ القيم الدينيّة والإنسانيّة التي تدعو إلى السلام والرحمة والألفة والتعاون، ليس في لبنان وحسب، بل على مستوى العالم العربيّ. لذلك، شارك في تأسيس “الفريق العربيّ للحوار الإسلاميّ المسيحيّ”، وهو فريق يضمّ مفكّرين مسلمين ومسيحيّين من لبنان وسوريا ومصر والأردن وفلسطين والسودان.
كان أكثر ما يفرحه أن يكون في حضرة الشباب، ومتحدّثًا في المنتديات الشبابيّة عن العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة ونظرته إلى دور الشباب في صنع مستقبل هذه البلاد على أساس المواطنة والمساواة والاحترام المتبادل. فكان يدعو إلى قيام “الدولة المدنيّة” غير المستنسخة عن التجارب الغربيّة، بل تلك الدولة التي يصنعها ويضع أسسها أهل بلادنا بناءً على ما ينفعنا كافّة، وبما يتناسب مع مجتمعاتنا وخبرتنا التاريخيّة وحياتنا المشتركة ومصيرنا الواحد.
كان السيّد هاني داعية للاعتدال ليس في أوساط مذهبه وحسب، بل كان يحثّ الجميع على انتهاج سبيل الاعتدال. فذات مرّة، من عشر سنوات، جمعته والمطران جورج خضر ندوة عنوانها “مستقبل العلاقات المسيحيّة الإسلاميّة في ظلّ الأوضاع الراهنة”، دعت إليها حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وكان معظم الحضور من الشابّات والشبّان الأرثوذكس. يومها دعا السيّد هاني الشباب الأرثوذكسيّ إلى عدم الاكتفاء بـ”الاستمتاع بكلام الاعتدال الصادر عن المطران خضر، ثمّ الانصراف والعمل بعكس هذا الكلام”.
في الواقع، لمس السيّد هاني المشكلة التي تحكم تصرفّاتنا جميعًا، نحن اللبنانيّين، حيث الازدواجيّة المقيتة، والطلاق ما بين الاندهاش بالكلام الطيّب وبالبلاغة الساحرة، والانصراف إلى السلوك في الحياة اليوميّة بما لا يليق بهذا الكلام.
في الندوة ذاتها، قال السيّد هاني إنّ “هويّتنا تحدّدها نظرة الآخر إلينا، وتشكّلها أيضًا”، لذلك لا يجوز أن نغفل نظرة الآخر المختلف إلينا، فالآخر ثراء لنا وقيمة مضافة. هذه العلائقيّة والتبادليّة هي التي تبني الجسور الثابتة للعيش معًا مواطنين متساوين في الكرامة الإنسانيّة.
رحل السيّد هاني بعد أن ترك العديد من المؤلّفات القيّمة، غير أنّ كلّ الكتب والمقالات والأبحاث لا يمكنها أن تعوّض غيابه وغياب بسمته وأنسه وطيب اللقاء به. هاني فحص الودود، الدمث، الصادق، الصريح، الثائر، المشاكس، المنفعل… ليكن ذِكره مؤبّدًا.
الأب جورج مسّوح
“النهار”، 24 أيلول 2014