الزّمن الأسود والفجر الآتي!- الأرشمندريت توما (بيطار)
ليس أقصى ولا أقسى من أن يُفسد أحدٌ أحدًا ثمّ يلقيه في الجحيم بحجّة أنّه فاسد!. هذا منتهى الشّرّ!. هذه ذروة الخباثة!. هذه قمّة الرّياء!.
هذا عمل الشّيطان وعمل زبانيته، مَن هم من أب هو الشّيطان وأعمالَ أبيهم يعملون!. اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى!.
إفساد النّاس، لمَن فَسُدَت نفوسُهم، متعةٌ ما بعدها متعة!. الفساد، للفاسدين، قاعدة الحياة، وما ليس فاسدًا ناقص ومملّ!. في الفساد، عند هؤلاء، حرّيّة بلا حدود؛ وفي إفساد أحدٍ نفسَه والآخرين تعبير عن حقّ مختلَق في الحرّيّة!. ذروة الفساد، للفاسدين، حرّيّةٌ بلا كوابح ولا ضوابط!. فقط، ساعتذاك، يتحرّر الإنسان، في إطار منطق الفساد، من كلّ عِقَدِه، ويصير كالله!. الألوهة، إذ ذاك، تكون إطلاقيّةً للهلاك والموت!.
ثمّ، في إفساد الفاسدين النّاسَ إتفاهٌ للنّقاوة واستسخاف للفضيلة وحكمٌ على الله بالظّلم والتّعدّي، لحؤوله دون انطلاق الخليقة في حرّيّة الفساد، على سجيّتها!. التّوّاقون إلى الفساد، إلى تماديهم في غيِّهم، يسلكون كمَن يتعمَّد إغاظة الله، ولهم في تحدّي الله متعة خاصّة!.
في إفساد الآخرين زكاءٌ لفكر الفساد وطبعيَّته!. هذا في التّوجّه الظّاهر للفاسدين!. أمّا في الأعماق، ففي إفساد الآخرين تسلّطٌ، وتوكيد للفاسد، في عين نفسه، أنّه على حقّ، وأنّ للخليقة، في شرودها، تحقيقًا لذاتها، حرّةً في مسراها بلا حدود!. من ذا متعة المغرق في الفساد، إذ يعتوره شعور راسخ بأنّ الآخرين له مِلكٌ، لأنّه أعمقُ فهمًا بفنون الفساد، وأكثر دراية بأغوار الحرّيّات المتفلّتة!. لذا يجدُه في موقع الكفء بإبداع سواه للفساد!. وهذا له ألوهة، في الفعل، على سجيّته، تنقض ألوهة الإله الخالق، وتفضي به، في فساده، إلى ألوهة من نوع آخر، فيها، بإزاء الإله الحيّ، التّحدّي ومناهضة الخيارات البارّة، نحو تأليه مظنون للشّرّ!. على هذا، تشرئبّ، في وجه القداسة، النّجاسةُ، وفي مقابل أزليّة الحبّ، يندفع الفاسدُ، واهمًا، وراء أبديّة حبّ الذّات!. المتعة، هذه، إذًا، تؤتى من شعور بتعاطي الألوهة في الإنّيّة، خارج نطاق الألوهة الحقّ!. الحقّ، في هذا النّطاق، يصير للعذاب، فيما المتعة، لانحرافها، تكون في الباطل!. الباطل، للفاسد، نشوة!. والمتعة، إذ ذاك، تؤخذ اختلاسًا، وتُعرف انحرافًا!.
قلتُ، أعلاه، إنّ الفاسد يحكم على الله بالتّعدّي. لِمَ التّعدّي؟ لأنّ الفاسد يقطع نفسه عن الله، ما يجعله، في عين نفسه، قائمًا بمعزل عنه، ويجعل امتدادَ الله صوبه، من ثمّ، اقتحامًا وتجاوزًا!. مذاق الألوهة، في فاه الفاسد، وَهْمُ عظمةٍ وعزلةٌ واغترار!. لذا سلوك الألوهة لديه مذاقُ عبادةِ ذاتٍ مقرونٌ بجماحِ خيالٍ مجنَّحٍ بتفجّرِ أهواء!. في هذا السّياق، معاناة الفاسد مردودة، في عينيه، إلى الله!. كلّ معاناته منه!. وجود الله عينُه مزعج ومقلق حتّى الضّنك!. يعرف الفاسد، في قرارة نفسه، أنّ الله موجود!. ولكنْ، لأنّ وجوده، أي وجود الله، مُقِضٌّ وتهديدٌ متواتر له، فإنّه يجمع، في كيانه، موقفين متباينين، ولكنْ، متكاملَين وضعًا: في الواحد إلغاءٌ لله، وسلوكٌ متعمَّد كأنّه غير موجود!. وفي الآخر اتّهام له بأنّه وراء معاناة الخلْق، القويمين، باطلاً، في عيون ذواتهم!.
بالعودة إلى المقولة إنّ منتهى الفساد أن يُفسِد أحدٌ أحدًا، ثمّ يلقيه في الهلاك بحجّة أنّه فاسد، أقول إنّ الفاسد لا مطرح فيه لحسّ. هذا يخبو، ويسود صاحبَه اللاّحسُّ، كاستكمال لمسعى الإفساد!. ولا مكان فيه لرحمة!. هذه تذوي، فيتعاطى الخالقَ والخليقةَ بقسوةِ قلبٍ ولا أصلد، كأنّ الرّفق ضعفٌ والقسوةَ قوّةٌ!. يقدِّم ذاته كنور، وهو ظلمة، وكملاك، وهو شيطان!. يشجِّع أبدًا، على الفساد، باسم الحرّيّة، من حيث إنّ الفساد طريق الحياة الفضلى!. الذّئبيّة، لديه، هي المشتهاة من حيث إنّ البقاء للأقوى ولا مطرح للضّعفاء!. يُغري ويُغوي ويشجِّع ويسهِّل لضحاياه الزّلل ليُسقطهم ثمّ يَسخر بهم ثمّ يَسحقهم ثمّ يتعاطاهم كنكرة!. وإذ يبلغ منهم المأرب ينصرف عنهم استخفافًا ويلقي بهم في اليأس جَذِلاً، لأنّ التّطلّع لديه، بعد الفساد، هو إلى الإهلاك!. الموت هو مشروعُ محبِّ الفساد، ولا يتورّع عن تبريره بدعمه بالله!. يوافق الفاسدَ، تمامًا، أن يَضحى اللهُ إلهَ أموات لا إله أحياء!. من هنا تولد أجيالُ مَن يَقتلون باسم الله ومن أجل الله، وهم لا يعلمون يمينهم من يسارهم، وأنّهم إلى روح إبليس انتماؤهم!.
روح إبليس كان، أبدًا، في تاريخ سقوط البشريّة، يَصفر!. أمّا اليوم فيهبّ هبوبَ العاصفة، تلفّ الأرض لفًّا، ويزأر، طولَها وعرضَها، زئيرًا!. إلفة النّاس بروح الشّيطان، في مسير السّقوط، تنامت!. اليوم، ثمّة ارتدادٌ كبير عن الله تزكّيه الدّهريّة، نمطَ حياةٍ، يؤكّد الفردانيّة عزلةً، والعقلانيّة غرورًا، والعلومَ استغناءً عن الله، والاستهلاكيّةَ مادّيّةً وبطرًا؛ ما يكثِّف الارتدادَ إلى إبليس، إذ تستحيل النّفوسُ أرضيّات قابلة لحضانة روح الغريب!. وبعدما يسّرت العقلنةُ والعلومُ والتّكنولوجيا العولمةَ، انحصرت أكثرُ ثروات الأرض، وبها كلُّ مظهر من مظاهر القوّة والتّأثير في النّاس، عبرَ السّياسة والسّلاح والحاسوب والإعلام، في أيدي قلّة كانت تتوق، أبدًا، إلى ما يتوق إليه إبليس، منذ بدء السّقوط، لجهة تحويل الإنسان إلى آلة إبليسيّة، بضخّ روحه فيه!. هذه القلّة، بتشوِّفها إلى السّيطرة على العالم واستعباد الإنسان وإفساده، بمحو ميراثه الإلهيّ والتّاريخيّ والثّقافيّ والاجتماعيّ والعائليّ، وتسييره تسييرَ الآلة، بضخّ روح الاستهلاك فيه وفكرِ العبث وغسلِ اتّجاهاته الإنسانيّة التّقليديّة، محوًا لها واستعاضة عنها باتّجاهاتِ ما بات يُعرف بـ”الرّأي العامّ”، و”الأسرة الدّوليّة”، هذه القلّة باتت، بين يديها، البشريّةُ، مادّةً قابلة للإفساد تمامًا باسم الحداثة والعصر الجديد والنّظام العالميّ الجديد!. كلّ هذا ما كان ليكون سوى ذروة التّهيئة لإبداع البشريّة المتأبلسة؛ وما كان لهذه القلّة أن تصل إلى هذا الحدّ من السّعي إلى تحقيق مشروعها، لو لم تكن أنفسُ أصحابها وتوقُهم إلى التّزوّد المتواتر بروح إبليس خباثةً وانعدامَ حسّ وتوقًا إلى السّطوة وحبّ الموت!.
إبليس يَدخل بزبانيّته، إلى البشريّة، من الباب العريض!. أكثر النّفوس باتت مهيّأة له، مشبعة بتطلّعاته!
زمن الإنسان الإبليسيّ يكاد يكتمل!. كلاّ، ليس هذا إيذانًا بحلول الظّلمة القصوى وحسب، بل، من حيث لا يدري العالم، إيذان ببزوغ فجر جديد!. فلأجل المفارقة، كانت الكلمة الإلهيّة هي هذه: “متى ابتدأت هذه تكون، فانتصبوا وارفعوا رؤوسكم لأنّ نجاتكم تقترب” (لوقا 21: 28)!.
كيف؟ أين؟ متى؟ هذا عِلمُه عند الله!. أمّا نحن، فيكفينا الرضى والتّسليم لربّنا وسيِّدنا!. لتكن مشيئتك!. وليكن لي بحسب قولك!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
28 أيلول 2014