الصّليب والحقّ وما بينهما!- الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Tuesday October 7, 2014 97

… ويعطيك ربُّك صليبًا!. تريده أو لا تريده، هذا شأنك!. يبقى الصّليب، رغم كلّ شيء، ميراث الحقّ للبشريّة… من فوق!.

   لماذا؟ وكيف؟

   غير صحيح أنّ الصّليب الّذي نتكلَّم عليه هو رمز الحزن والألم والموت، بل هو رمز الحياة، لأنّه رمز المحبّة!. مَن يحبّ يضحّي!. أيمكن أن تكون هناك محبّة من دون تضحية بين النّاس؟ مستحيل!. محبّة من دون تضحية ادّعاء محبّة!. العالم من دون تضحية جحيم، غابة وحوش يأكل بعضها بعضًا!. أمّا مَن يضحّي فهذا يعرف الله (الأب بائيسيوس)!. فلأنّ الله محبّة، بذل الرّبّ يسوع المسيح نفسه على الصّليب!. صحيح أنّ الآخرين صلبوه، وأنّه كان قادرًا على أن يجتنب الصّليب، لكنّه صُلب بإرادته لا عن عجز!. أَلَم يَقل في إنجيل يوحنّا إنّه يضع نفسه من ذاته (10: 18)؟ لذا، من جهة النّاس، بالصّليب أهانوه حتّى الموت، ومن جهة الله، أكرمهم، بقبوله الصّليب، حتّى الحياة الأبديّة!.

cross-sunset-2 full   لم يختر يسوع الصّليب لأنّه أحبّ الألم والموت، أو لأنّه أراد أن يصالحنا مع الألم والموت!. هذا مرض نفسيّ!. بل اختار يسوع الصّليب لأنّه أحبّ الإنسان!. الصّليب صناعة بشريّة!. ويسوع اقتبل الصّليب، أي ما للإنسان، لأنّ الإنسان كان مصلوبًا على الألم والموت!. كان الإنسان يتعاطى الحياة، لا شكّ في ذلك، ولكنْ، الحياة المائتة!. لم يعرف الإنسان، في الحال الّتي كان فيها، عندما تجسّد ابن الله، إلاّ هذا النّوع من الحياة!.

   ما معنى ذلك؟.

   معناه أنّ الله أحبّ الإنسان فيما صَلب الإنسانُ ربَّه لأنّه لم يُطِقْ محبّته!. محبّة الله للإنسان كانت للإنسان موتًا؛ لذا ما كان بإمكانه إلاّ أن يقتل ربّه!. هذه هي الحقيقة، بكلّ أسف!. ولِمَ فعل ذلك؟ لأنّه وقع في الجهل الرّوحيّ!. والإنسان عدوّ ما يجهل!. الحياة الّتي يعطيها الله صار الإنسان يعتبرها موتًا!. فبتخلّصه من الحياة، أي من الله، ظنّ أنّه يقتني الحياة، الحياة كما بات يتصوّرها في ضلاله، أي الحياة المائتة!.

   ابتعد الإنسان عن الله!. تغرّب عنه!. لذا صار يطلب الحياة بعيدًا عن الله، حيث لا حياة!. وهكذا طلب الحياة فجاءه الموت!. صلب ربّه لأنّ ربّه صار يمثّل، في نظره، الموت لا الحياة!. لذا قلت عن الإنسان إنّه وقع في الجهل الرّوحيّ!. يسوع، على الصّليب، صلّى من أجل صالبيه أن اغفر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون!. هم يجهلون، ولا يعلمون، ماذا يعملون!. الجاهل، أنت لا تحكم عليه بالموت لأنّه يفعل ما يفعله عن جهل!. بالعكس، إذا كانت فيك محبّة، فإنّك تحكم على الجهل الّذي فيه بالمعرفة!. تعمل على إخراجه من جهله!. لهذا السّبب اقتحم الرّبّ يسوع، بمحبّته، الصّليب، لأنّه أراد أن يقتحم الإنسان في جهله!. بكلام آخر، لأنّه أراد أن يخرجه من الجهل إلى المعرفة، ومن الظّلمة إلى النّور!.

   على هذا، قَبِل الرّبّ يسوع أن يُصلَب، وكأنّه مستأهلٌ الموت، وهو البريء الّذي لا عيب فيه، لكيما تأتي ساعة، والسّاعة حلّت، يعلم فيها النّاس أنّ يسوع أحبّهم حتّى الموت، موت الصّليب، لكي يخرجهم من جهلهم للحقّ، أي من جهلهم له هو، لأنّه هو الحقّ، إلى المعرفة، لكي يعرفوه!.

   وكيف يعرفونه؟ بالمحبّة!.

   معرفة الله معناها محبّته لا التّفكير فيه كفكرة، كمفهوم ولا التّأمّل الفلسفيّ فيه!. الله كائن وليس تجريدًا!. والكائن لا يُعرف إلاّ بالمحبّة!. أما قرأتم قطّ ما قاله يوحنّا الحبيب في رسالته الأولى: كلّ مَن يحبّ يعرف الله، ومَن لا يحبّ لم يعرف الله لأنّ الله محبّة؟!. والقول عينه يُقال في شأن البشر ككائنات!. لا يمكن لأحد أن يعرف أحدًا ما لم يحبّه!. معرفة الكائن، خارج نطاق المحبّة، ربّما كانت معرفة عنه، لكنّها، بالتّأكيد، ليست معرفته؛ وهذه معرفة في نطاق الجهل!.

   لذا كان لا بدّ للمسيح من أن يموت على الصّليب. هذه علامة النّجاح لا الفشل، علامة الغلبة لا الهزيمة، لأنّها مؤشّر إصرار الله على تمسّكه بمحبّته للإنسان حتّى الأخير، حتّى الموت، حتّى منتهى الجهل البشريّ!. أخضع ربّنا نفسه طوعًا لجهل الإنسان لكي يُخرج الإنسان من جهله!. هذه لغة لا يمكن أحدًا أن يفهمها إلاّ متى أحبّ، وإلاّ يبقى الصّليبُ له عثرة وجهلاً!.

   دونك هذا المثل: أنت تكرهني وتتكلَّم عليّ بالسّوء كأنّي أزعجك، لأنّ عندك فكرة غير صحيحة عنّي. وتكون النّتيجة أنّي لا أردّ على فِعلتك بفعلة مثلها، لا بل أقول لك: “ليسامحك الله”!. وتمرّ الأيّام، وتظنّ أنّك رويت غليلك منّي!. ثمّ يمرّ بك صديق يقول لك كلّ الحقّ عنّي أنّي بريء!. فماذا يحدث؟ يبكّتك ضميرك، إذا كان لك ضمير، لأنّك كنتَ جاهلاً ما في شأني!. إذ ذاك ينقلب بغضُك لي حبًّا، وإساءتك إليّ أسًى وتوبة!.

   الصديق، الّذي أتى ليبكِّت البشريّة الجاهلة الضّالة، هو المعزّي، الرّوح القدس!. هذا مَن جاء ليبكِّت العالم على خطيئته، كما قال يسوع في إنجيل يوحنّا (16: 8)!. إذًا، بوساطة الرّوح القدس، صار بإمكان البشريّة جمعاء – والّذين صلبوا الرّبّ يسوع عيِّنة من هذه البشريّة – أن تعرف كم هي على خطأ، وأن تتوب، وأن تؤمن بيسوع وبما فعله يسوع أنّه الحقّ، وأن تقتبل الرّوح القدس، وأن تخرج من جهلها، وأن تعرف الله بأن تحبّه؛ ومن ثمّ أن يحبّ النّاس أحدهم الآخر، لأنّ مَن يحبّ الله لا يمكنه إلاّ أن يحبّ أخاه، أي كلّ إنسان، ومَن لا يحبّ أخاه لا يمكنه أن يحبّ الله!.

   كلّ هذا الانقلاب في حياة الإنسان، هذه الثّورة، حصلت بالصّليب!. بعد أن كان الصّليب أداة للّعنة والموت، صار موضعًا لتجلّي محبّة الله الكاملة للبشريّة!. لذا الصّليب صار علامة المحبّة الإلهيّة والحياة الإلهيّة!. قوّة الله بيننا وحضورُه باتا يأتياننا بعلامة صليب يسوع، وبها وحدها!. بالصّليب سكب الرّبّ الإله الفرحَ في الإنسان!. هذا، تمامًا، هو ما حدا الرّسول بولس إلى الكلام، بغيرة وحماسةٍ وبلا توقّف، عن الصّليب، أنّه بالصّليب أتى الفرح إلى كلّ العالم!. هذا، تمامًا، هو ما حداه لأن يُقلع عن الافتخار بنفسه ويتخلّى عن الشّريعة، كما فهمها الفرّيسيّون، وعن العالم وما فيه، ليعلن، بالفمّ الملآن، أن حاشا لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح، وأنّه لا يشاء أن يعرف أحدًا، أو شيئًا، بين النّاس، إلاّ يسوع وإيّاه مصلوبًا!!!.

   على هذا، ما يأتينا به الصّليب هو الحياة الجديدة!. نحن نحمل كلٌّ صليبَه، كلَّ يوم، ونتبع المسيح، لأنّنا نشاء أن نتبنّى سيرة التّضحية، في حياتنا، على غرار سيرته، لا في علاقتنا به وحده، بل في علاقتنا بالجميع امتدادًا، لأنّ مَن يحبّ يسوع يحبّ خليقته أيضًا، لأنّها على اسمه!. بكلام آخر، نحبّه فيها، في كلّ شيء فيها، وفي كلّ أحد!. نحبّه في الجائع وفي العطشان وفي الغريب وفي العريان وفي المريض وفي المحبوس!. ألم يقل: الحقّ أقول لكم بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم (متّى 25: 40)؟!.

   هؤلاء الأصاغر ليسوا فقط المحتاجين إلينا بل الجميع بلا استثناء!. نحبّ يسوع في الفقير وفي الغنيّ، في مَن يعجبنا ومَن لا يعجبنا، في مَن يحبّنا ويبغضنا!. المسيحيّة الحقّ، في نهاية المطاف، أكثر ما تتجلّى وتكتمل صورتُها في محبّة الأعداء!. القول أن كونوا كاملين كما أنّ أباكم السّماويّ هو كامل، هذا القول الّذي هو للجميع، لا يتحقّق إلاّ بمحبّة الأعداء!. من دون محبّة الأعداء تبقى المسيحيّة ناقصة، وحتّى إيهاميّة!. ربّما ديانة كغيرها من الدّيانات!. لذا بمحبّة الأعداء، في الحقيقة، دخلت إلينا الحياة الجديدة، حياة الله!. أُعطينا أن نشترك فيها!.

   على الصّليب، وعلى الصّليب بخاصّة، تجلّت محبّة المسيح لأعدائه، فبات الصّليب، بمعناه الأعمق، محبّة الأعداء؛ كما بات رمز المسيحيّة الحقّ، وباتت المسيحيّة صليبًا!. فإذا ما قلنا: يعطيك ربّك صليبًا، فالمعنى هو أنّه يعطيك نفسه طريقًا للخلاص من الخطيئة، أي من الشّرود عنه، كما يعطيك نفسه حقًّا، لتعبر من الموت إلى الحياة، وأخيرًا يعطيك نفسه حياة ليجعلك شريكًا له في حياته وحياة الله!. أليس هذا ما قاله الرّبّ يسوع عن نفسه: أنا هو الطّريق والحقّ والحياة؟

   إذًا، نحمل صليبنا كلّ يوم، أي نحبب، ونحبب، ونحبب، بكلّ ما تدفعنا إليه المحبّة من بذل وتضحية!. نفعل ذلك على غرار يسوع، وبالمحبّة الّتي يدفقها فينا يسوع!. إذ ذاك فقط نلقانا سالكين بالرّوح والحقّ في الحياة الأبديّة… منذ الآن، ولسوف نراه كما هو (1 يوحنّا 3: 2)!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
5 تشرين الأول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share