تراث يموت!. – الأرشمندريت توما (بيطار)
زمن الآباء، بعامة، ينحسر. الآباء، والمقصود بهم الآباء والأمهات معاً، هم الذين ينشئووننا في الروح ويبثّون فينا وجداناً يأتي من المسيح. التراث للعيش. والتراث المعيش، اليوم، في تآكل. التراث لم يعد، بالحري، إرثاً روحياً بقدر ما أضحى إرثاً كلامياً طقوسياً. الفضائل كالعفّة والتواضع والصبر والكرم، وكالصوم والصلاة والرحمة واللطف، لم تعد سيرة حياة، لدى الأكثرين، بقدر ما أضحت شيئاً من أطلال روحيّة قلّما عادت تتآلف، بيسر، ومناخ الدهرية المتفشّي فيما بيننا. التراث يستحيل خبريات شاذّة على الحياة الدنيا. الزمن، روحياً، زمن التصحّر. فقط بعض البقع مخضوضر، هنا وثمّة، والكثرة كثبان رمال.
على أنه تحلو ذكرى الأمس القريب متى وهنت العزائم، واستبان الرَكْبُ في انحدار سريع، عسى أن يكون في الذكريات ذِكْرٌ لله الذي به وحده تطمئن القلوب.
قال محدّثي عن جدّة له، غابت في السبعينات، ويبدو أنّها كانت إحدى الآباء الأمّهات صانعات الأجيال، قال: عاشت إلى الخامسة بعد المائة وكانت على استنارة في القلب فائقة. قلّما نسبت لنفسها، مرّة، فضيلة. كانت على كَرَم أخّاذ، لكنّها دَرَجت على إعادة الكَرَم إلى زوجها الذي حسبته دائماً معلّمها في هذا المضمار. في سنة مَحْل لم تكن للعائلة – وكانت ثلاثة عشر نفراً – سوى تنكة زيت واحدة انعصرت من زيتونات الموسم. قال لها، على ما أَبْدَتْ: “هيّا يا أخيّتي نعطي الفقير حقّه أولاً!.” – “كيف لنا أن نعطي وخَطْبُ الموسم الشحّ؟” – “نعطي ولا نغيّر والله خير المدبّرين!.” فانطلقتْ، على كلمته، ووزّعت الزيت والزيتون والصابون كالعادة. الإرث، عند القدامى، الفقير. فلما استنفدت ما لديها ذهب واشترى أربع تنكات زيت دفعها إليها. – “لِمَ فعلتَ ذلك يا رجل!.” – “لتبقى بركة الفقير في الأرض. حقّ الفقير أولاً لأنّه حصّة الله. بعد ذلك تملأ البركة الأرض”.
وكانت ليلة ظلماء من الأشتية القاسية، عواصف ومطر وبرد. وكانت إلى منزل العائلة “بورة” حطّ فيها قوم من “النَوَر”، أربعون أو خمسون، نصبوا مضاربهم. ثمّ في نصف الليل اشتدّ الإعصار، فأبى جفناها أن يخلدا إلى النوم. كانت تشغلها حال المرميّين القابعين في الخارج فريسة لهياج الطبيعة. اندفعت من سريرها إلى زوجها كأن حيّة لدغتها: “قمْ يا أُخيّ!. قمْ ادعُ ذوي المضارب، خَلْق الله، إلى قبونا لأنّهم في ضيق”. وعبثاً حاول أن يجعلها تنتظر إلى الصباح. كانت في حرقة عليهم. قارعته فأقنعته. ولم يكن هو، في كل حال، أقلّ منها رأفة بعباد الله. في الخارج مَن يعاني فكيف ينام عبد الله قرير العين؟!. خرج إليهم وناداهم. تركوا كل شيء واندفعوا إلى القبو. جعل لهم حطباً في الموقد وقدّم لهم ما تيسّر من الفرش والأغطية والطعام. واحدة حضرتها آلام المخاض. فصعد إلى زوجه وأعلمها معاتباً متبرِّماً: “ماذا تريدينني الآن أن أفعل؟” – “هيّا بها إلى فوق وأعدّ الماء الساخن!.” ثمّ أخرجته خارجاً وأولدتها وغسلت المولود الجديد واعتنت بأمرها وأدفأتهما. ثمّ في اليوم التالي ردّت المرأة النفساء إلى ربعها بعدما زوّدتها بِدِيكٍ لتتقوّى. ومرّت الأيام وانتُسي الخبر. عند أحبّة الله هذه من العاديّات. فعل تنفّس. لا هي أوردَته ولا سواها. بعد سنين طويلة رقدت المرأة المعطاء. مرّ أسبوع، وإذا بامرأة مسنّة من “النَوَر” تدقّ الباب. فتحوا لها. لم يكن معها لا إبريق لتسأل زيتاً ولا كيس لتطلب خبزاً. – “ماذا نفعل لكِ يا أختاه؟” سألت عن العجوز المبارَكة. قيل لها توفّيت منذ أسبوع. انفجرت باكية. أخبرت أنّها منذ ستين سنة صنعت لها الراقدة صالحةً يوم نجّتها من موت محتّم حين وافتها آلام المخاض في ليلة عاصفة هوجاء وساعدتها على الوضع. مذ ذاك وهي تأتيها كل سنة للزيارة والتبرّك وتقبيل يمينها.
كانت تأتي الصالحات عفواً. ولما كان أحفادها في المهجر سعت لأن تستزيد من عمل البِر والإحسان لأنّها قالت ما نزرعه هنا من خير للناس يؤتيه الربّ الإله أحفادها في المهجر حيث لا حَول لهم ولا قوّة إلاّ بالله.
تراث الذين يزرعون بالبركات، إلى أي حدّ لا زال حيّاً بيننا؟ المسيحيّة بحاجة إلى بعض الجنون، جنون في العطاء، جنون في المحبّة، جنون في الاعتماد على الله، جنون في إتيان الصالحات ونسيانها في آن…
وقيل عنها ابنتُها رقدت والأمّ فوق المائة سناً. لم يشأ أحد أن يخبرها لئلا يُحزن قلبها. كانت تسأل عن ابنتها فلا يجيبها أحد صراحة. أخيراً جاءها حفيد لها، ابن التي رقدت، فسألته عن أمّه فلم يجبها بوضوح. قالت له أمّك رقدت ولا تشاء أن تخبرني. البارحة شاهدتها في الحلم بين الراقدين. فاعترف ولم يستطع أن ينكر فعزّته ولم يقدر أن يعزّيها. ثمّ قامت واتّشحت بالثياب اللائقة بالمناسبة وأخذت عصاها وسألت أن يسندوها وتوجّهت إلى بيت ابنتها. هناك، دون أن تذرف دمعة عليها، دنت منها وقبّلتها، ثمّ قالت لها وهي تصلّب عليها: “الربّ معك ووالدة الإله تحفظك والقدّيسون يرافقونك”. وبعد أن دعت لها ثلاثاً وجعلت لها وردة على خدِّها لتبقى في عينها قرينة الورد، لأنّ وجنتيها كانتا دائماً كالورد حمرة، قالت ردّوني إلى البيت. عادت من حيث أتت. جبابرة الله في الأرض!.
هذا الجنس من الناس، هذا الوجدان بين البشر أين صار؟ مثل هذه مَن أنشأ أجيالاً من الأبرار الذين اعتادوا اللهج بالله والسير في مخافته. أترى انقضتْ تلك الأيام وبتنا اليوم خلواً ممن يلتزموننا إلى المسيح إلاّ رخواً؟ اليوم نعرف بالعقل أكثر، لكنّنا نعرف بالقلب أقل. اليوم لا نعرف ونتكلّم والبارحة كانوا يعرفون ولا يتكلّمون. صَمْتُ القدامى، بالأمس القريب، كان مخصباً بالكلام الإلهي، وكلام المحدثين، في الحاضر الدهري، بات مخصباً بالخواء المبين. أترى التراث إلى زوال لأنّ الأيام شرّيرة والإيمان قلّ. الكنائس الحجرية لا زالت تُبنى ولكنْ لا صلاة تهزّ الجبال بعد. الشكل طغى على المضمون. طقوس بلا تقوى. وكلام بلا إيمان. خطاب بلا محبّة. وتراث بلا حسّ. إلى أين المسير؟ افتدوا الوقت فإن الأيام شرّيرة!. أية عائلات تنشأ؟ أما عاد هناك من خط فاصل بين ما للملكوت وما لهذا الدهر؟ يبدو أنّ الرجال في الروح، رجالاً ونساء، قد ولّى أكثرهم وبتنا، بالأكثر، نعيش على الطحالب والأطلال وأشباه الرجال. لم يبق غير التوبة كنينوى وإلا طوفان نوح!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
12 تشرين الأول 2014