الجماعة والقضيّة! – الأرشمندريت توما (بيطار)
قضيّة المسيحيِّين الأوائل، وأقصد في القرون الثّلاثة الأولى، كانت واضحة لعيونهم: المسيح!. لفظ الرّسول بولس الكلمة الّتي اقتبلها المؤمنون على النّحو التّالي: الحياة لي هي المسيح والموت ربح!. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ حياتهم في المسيح لم تكن منهم. كانوا يعرفون أنّهم يستمددونها منه!. لا منه بمعزل عنه. منه بمعنى إيّاه!. هو حياتنا!. الحياة الّتي يعطيناها هي نفسه!. لا فرق ولا مسافة بين المسيح وحياة المسيح!. لذا قال عن نفسه إنّه الحياة!. ولمّا شاء أن يعطينا الحياة، قال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي… جسدي بمعنى ذاتي، أنا!. أعطانا نفسه خبزًا جوهريًّا، لا بمعنى الخبز الّذي يأكل منه الإنسان ويموت، بل الّذي يأكل منه ولا يموت. الخبز الّذي أُعطيه أنا هو جسدي؛ قال!. هذا الخبزُ هو الحياة الأبديّة!. فالخبز الّذي أعطانا، إذًا، هو رمزه!. الرّمز، في الاستعمال الأسراريّ للّفظة، عندنا، كما عبَّر القدّيس مكسيموس المعترف، مثلاً، ليس ما يشير إلى المسيح، بل إيّاه، المسيح، غير المنظور، معطًى لنا منظورًا!. ماهى الرّبُّ نفسَه بالخبز؛ اتّخذه لذاته جسدًا؛ أَتْحَدَ نفسه به!. صيَّر الخبزَ جسدَه!. ابنُ الله تجسَّد من البتول!. طبعًا، نحن لم نعُد نعرف المسيح بالجسد، وإن كنّا عرفناه مرّة!. أمّا وقد اتّخذ الخبزَ جسدًا فقد مدّ لنا نفسه به، أو تحت علامته، إلى جيل بعد جيل!. الخبز والخمر، باتا، على نحو أسراريّ، يفوق مدارك البشر، العلامة المنظورة للحضور الشّخصيّ غير المنظور للرّبّ يسوع المسيح!. إيّاه بالذّات!. إيّاه في الجسد، دون زيادة ولا نقصان!.
ولأنّ مسيح الرّبّ، للمسيحيِّين، بات حياتهم، لم يعد الموتُ، الّذي ذاقته البشريّة، قبل مسيح الرّبّ، خسارةً للحياة، بل ربحٌ. كيف؟ حياة المسيح ابتَلعت الموت، لا العكس، فصار الموتُ، للمسيحيِّين، مشبَعًا بحياة المسيح؛ وصرنا، بالموت، من أجل المسيح، نتملأ من حياته!. لم يُلغَ الموت، لأنّه للبشريّة مؤدِّب!. ولكنْ، بات الموت، بتدبير الله، وبقوّة الله، موطنًا لحياة الله!.
قضيّة المسيحيِّين، في الحياة والممات، إذًا، كانت: إن عشنا فللرّبّ نعيش، وإن متنا فللرّبّ نموت، فإن عشنا وإن متنا فللرّبّ نحن!. كلّ تفصيل من تفاصيل حياة المؤمن بالرّبّ يسوع، هو تفصيل يقصد المؤمن أن يكون بروح المسيح ووصيّة المسيح، وغايته اقتناء روح الرّبّ والقربى منه حتّى الاتّحاد به!. لا هدف آخر للمؤمنين يهمّهم أن يحقِّقوه غيرهذا!. العالم لهم موضع يتروّضون فيه على محبّة الله، ومعبَرٌ يعبرون به إلى وجه ربِّهم!. ليست لهم ههنا مدينة باقية، بل يطلبون الآتية!.
على هذا، هاجس المسيحيِّين الأوائل كان ملكوت السّموات!. هذا موطنهم إلى حياة أبديّة، هذا مسكنهم في قلب الله، هذه قِبلتُهم إلى النّور غير المخلوق!. والملكوت هو المسيح!. يطلبون أن يسكن روح الله فيهم ويتفعَّل بتواتر!. “هلمّ واسكن فينا”. هم في المسيح والمسيح فيهم، كما المسيح في الآب، والآب فيه!. عينهم في هذا المرتجى. يعيشون هنا، وليسوا من هنا، بل من هناك!. لا ينتمون، كيانيًّا، إلى ما هو ههنا، إلى العالم، بل إلى ما هو هناك، إلى الملكوت!. ليس الموضوع موضوع مكان ولو أُشير إليه بألفاظ مكانيّة. قلب الإنسان حيث كنزه!. هنا، هم في عبور!. لا يبيعون الملكوت بأيّ ثمن!. يشترونه بأيّ ثمن!. لا ينكرون مَن افتداهم بدمه ولو كانت الكلفة دمهم، لأن مَن ينكرني قدّام النّاس، قال، أُنكره أنا قدّام أبي الّذي في السّماء!. الأمانةَ، الأمانةَ، في كلّ حال!. ضعافٌ هم المسيحيّون، لأنّهم من لحم ودم؟ هذا لا يعيق ثباتهم في الأمانة، إلى المنتهى!. فالّذي فيهم أقوى من الّذي في العالم!. قوّتهم لا يستمددونها من ذواتهم، بل ممّن يقيم فيهم بإيمانهم به!. الضّعف البشريّ، والحال هذه، يصير الحالة الّتي تسكن فيها قوّة الله وتتجلّى!. قوّتي في الضّعف تُكمَل، قال!. إذًا، ثمّة حرب مستعرة بين الإنسان وضعفه، والإنسان وخوفه، والإنسان وشكّه!. الخيار هو بين أن يستسلم لأوهانه وأن يُسلم نفسه، في وهنه، لربّه!. في يديك أستودع روحي!. ساحة المعركة هي قلب المؤمن!. لا أعداء له في النّاس!. هؤلاء كرّسهم ربّه أحبَّته!. أعداؤه أهواؤه!. يؤمن فيجاهد فيَضعف فيَهوي، أحيانًا، فيَنهَض فيَستسمح فيُجاهد من جديد؛ ثمّ يتّضع، فيتقوّى، فيصرخ نعمة ربّه، ويهتف اسمه؛ ثمّ يمضي قدُمًا بإصرار، ولا يستسلم إلى أن يُسلِم نفسه بين يدي ربّه!. سأقاوم أعدائي حتّى أُدركهم، ولا أرجعن حتّى أفنيهم!. هذا لسان حاله!. له كلّ النّيّة، كلّ العزم!. القلب المنقسم على نفسه لا ينجح في شيء!. مَن يصبر إلى المنتهى، هذا يخلص!.
هذه قضيّة المؤمنين وهذا مسراهم!. لا قضيّة لهم إلاّها ولا مسرى لهم سواها!. يسيرون في إثر المعلِّم!. لا يحتاجون لأن يفهموا!. يحتاجون لأن يثقوا بالّذي أوثق نفسه بهم حتّى التّجسّد والصّليب!. هو يبلِّغهم الملكوت!. قوّتي من عند الرّبّ الّذي صنع السّماء والأرض!. لا جعل رجلك تزلّ ولا نام حارسك!. متى استقام المسير، كلّ ما يحدث ينفع!. السّقوط ينفع لأنّه يعلِّم الاتّضاع!. هذا هو الإنسان!. والنّجاح ينفع لأنّه يعلِّم الاتّكال على الله!. أستطيع كلّ شيء بالمسيح الّذي يقوّيني!. بين هذا وذاك نسير!. نعلو ونهبط!. تكدّنا الأمواج حينًا ويعترينا السّكون حينًا!. بين مدّ وجزْر نمضي في خطى ثابتة نحو وجه الله!. وجهك يا ربّ، أنا ألتمس!. نبقى مترجّحين إلى أن تأتي ساعة يكتمل فيها المسرى، فنقول قولة سمعان الشّيخ واثقين: الآن، أطلق عبدك أيّها السّيّد، لأنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك…
المؤمنون بالرّبّ يسوع جماعة أسخاتولوجيّة، أخيريّة، ملكوتيّة!. يذوقون الحياة الأبديّة كلّ يوم، لكن مرماهم الملء، بالموت، متى حلّت السّاعة!. إذ ذاك تنغمض عيونهم على ما هو ههنا لتنفتح على ما هو هناك!. قِبلتهم النّور حين يشملُهم فرحُ ربّهم!. ادخل إلى فرح ربِّك!. كنتَ أمينًا في القليل فأُقيمك على الكثير!.
ماذا بقي من قضيّة المسيحيّين، اليوم؟ غير القطيع الصّغير الأمين الّذي لا زالت تنقدح شراراته، شذرات، هنا وثمّة، لتشهد للنّور وتحدِّث عن تراث عَبَر؟ ألا زلنا كنيسة أم استحلنا بقايا قبائل؟!. ألا زال الملكوت قِبلتنا أم باتت لنا، في هذا الدّهر، كفاية؟ ألمسيحُ، بعدُ، في أذهاننا، أَلِفُنا وياؤنا، مآلُنا وحياتُنا، أم بات داعمًا لمآربنا وأهوائنا، وكفانا؟ أنرتدّ، في كلّ حال، في اليُسر والعسر، إليه، لأنّه سيّدنا الأوحد، أم نرتدّ عنه لأنّ المال، بالأكثر، بات سيّدنا؟!. أللقداسة مطرحٌ، بعدُ، في اعتباراتنا؟!. أيّة عبادة بقيت لنا؟ تلك الّتي بالرّوح والحقّ أم تلك الّتي بالمشاعر والطّقوس، وحسبنا؟.
أسئلة وغيرها تُطرَح!. أين الكنيسة بعدُ؟!. أيكفي أن يكون لك بعض وجوه والتماعات، هنا وثمّة؟!. أين الجماعة المتحابّة في المسيح؟!. تَرى الكنائس الأبنية ولا ترى بنيان الرّوح في مَن يؤمّونها!. طقوس، ولكن أين اللّيتورجيا؟ ترتيل ولكن أين التّسبيح؟ رجال دين، ولكن أين الرّعاة؟ كلام ولكن أين الأفعال؟ نشاطات، ولكن أين الرّوح؟ لياقات ولكن أين المحبّة؟ دراسات وأبحاث وكتب ولكن أين التّوبة والفضيلة والصّلاة؟.
بغير كلام، أين القضيّة، أين المسيح؟.
نرى شكل قضيّة، هيئة قضيّة، قَول قضيّة، ولكن أين مضمون القضيّة؟!. متروك للاستنساب الشّخصيّ؟ كلّ يكاد يستحيل كنيسة قائمة في ذاتها!. لكلّ قضيّته الخاصّة!. لست ترى، بيسر، ما يجمع، بل ما يفرِّق!. أليس حقًّا الاستنتاج أنّ كلاً يطلب ما لنفسه؟!. في العمق، مَن تراه تهمّه البَرَكة بعد؟ مَن يبالي بخلاص الإخوة؟ في مقابل الرّوحيّات الإلهيّة، بتنا بإزاء طغيان النّفسانيّات الكنسيّة!. في مقابل الأسخاتولوجيّة بتنا بإزاء الدّهريّة!. بإزاء الجماعة الرّوحيّة بتنا بإزاء طغيان الفردانيّة الشّعاريّة!.
القضيّة تبدو في ضياع!. كأنّنا بإزاء أزمة إيمان حادّة!. وسط لامبالاة مستشرية، يجد الصّغار التّائقون للحقّ أنفسَهم في غربة، في عزلة، في وحشة!. في مؤمنين تجتاحهم روحُ العالم بيسر، تأخذنا العتمةُ، وتلقانا، في وضح النّهار، نأخذ مصباح ديوجين ونخرج بحثًا عن قضيّة تضيع!. أتُرى قضيّة المسيحيّين الأوائل وقضيّتُنا، اليوم، واحدة، بعد؟!. أترى ثمّة قيمة، بعد، لهذا السّؤال؟!. أتُرى ثمّة مَن يبالي؟!. أخشى أن يكون أكثر وجدان مسيحيّي، اليوم، بات مختلفًا عن وجدان مسيحيّي الأمس!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
19 تشرين الأول 2014