تشدد الحركة دائماً على أنها تيارٌ نهضويٌ في كنيسة الرب في أنطاكيا، وبعضُ وجوه فاعلية الحركة في الكنيسة، قيامُها بالعمل التربوي المسيحي للنشء والشباب.
ويتجلى هذا العمل في تلمذةٍ يقوم بها الحركيون لأخوتهم الأصغر، بغية الدخول معاً في فرح الشركة مع الرب تذوقاً وعيشاً ونمواً. ولا يفوت المدققَ في هذه الناحية أن يلاحظ عثرات كثيرة، وهِناتٍ وهفواتٍ، كان من الممكن تفاديها، وليس من المستحيل علاجُها.
وأنا إذ أتكلم عن الواقع الإرشادي في مركز دمشق، فلأن لنا فيه ألماً مزمناً، من عقبتين تعرقلان المسير، وتمنعان النمو بالسرعة والجودة المطلوبة، وأعني بهما عدد المرشدين من جهة، وضعف تأثير الموجود منهم من جهة أخرى.
أعلم أن الوجع موجود في بقاعٍ أخرى في المدى الحركي، لكن أكتفي بمركز دمشق عيّنةللكلام، بسبب انتمائي إليه ومعرفتي بتجربته. فلمركز دمشق تجربته وتاريخه، اللذان يحاكي بهما بقية المراكز في كثير من التفاصيل، ويختلف بهما عن بقية المراكز في تفاصيل أخرى. وتقدمي للكلام هدفه الإسهام في توصيف الضعف الذي نعانيه، والدعوة إلى مزيدٍ من التدبّر والاجتهاد، للوصول إلى أفضل مايمكن.
يتمّ، عادةً، التفكير بالحالة الإرشادية وفي الذهن : اجتماع الفرقة، والحديث الذي يتضمنه هذا الاجتماع. وهنا يتحوّل اهتمامنا إلى تدابيرَ لتصحيح طرق عرض الموضوع، وتحفيز الحضور وتنشيطهم، وكلُّها أهدافٌ مشروعة ومطلوبة ومباركة، فنضع خططاً للتدريب ورفع الكفاءات والمهارات، وهذا موجود وحاصل على الأقل منذ سنوات والحمد لله، لكن مع ذلك يبقى سؤالٌ جوهريٌ مطروحاً : لماذا تستمر المشكلة في الظهور ؟
لا شك أن اتساع رقعة المركز وتعدد فروعه، يطرحان تنوعاً في البيئات التي يتم العمل فيها، وفي هذا ما يكفي لتفسير الاختلافات والتنوعات في المردود. لكن هل هناك أسباب أخرى ؟
أزعم أن هناك سبباً أكيداً، قد يكون من نوع الظاهر المعروف ومع ذلك فهو الخفيُّ لشدة وضوحه، وأعني ضعفَ عيشنا في الكنيسة.
ساهمت، في العقود الماضية، ظروف عديدة في تشكيل حالة في المركز، تتمثل في الانكفاء على بيت الحركة (قرب كنيسة الصليب المقدس)، واعتماده منطلقاً وموئلاً للعمل الحركي، بالإضافة إلى الركون إلى عادة أن يكون في صفوف الحركيين، آباء يقومون برعاية المناسبات الروحية والاجتماعية ونشاطات الأسر والفرق، ويلبّون الدعوات إلى لقاءات وندوات ومحاضرات، وبعضهم يحقق الحد الأدنى من رعاية بعض الأخوة روحياً، بشكل آباء اعتراف أو آباء روحيين. فصار المركز مكاناً يؤمن نوعاً من الاكتفاء الذاتي، خصوصاً مع شيوع الزيارات الديرية، التي أعطت الكفاية الروحية، والرضى عن الذات لجمع غير قليل من الأخوة.
لكن هذه الحالة أسهمت، من الجهة الأخرى، في انسلاخ أبناء المركز عن حياة رعاياهم، التي لا نصِفها هنا بأنها على ما يُرام ويُرتجى، وعطّل ذلك التفاعلَ المطلوبَ بين الحركيين وبين رعاياهم، وتحوّل المركز إلى كيان يُعتبر له استقلاله في جسم الكنيسة، وهنا نقطة ابتعاد خطير عن فكر وأهداف الحركة كما لا يخفى.
وفي فروع المركز الأكثر بُعداً عن العاصمة، وفي المدّ الحركي، كان التطور يجري بشكل معاكس غالباً، حيث غلب الواقعُ “الريفي – العشائري” على العمل الحركي، وأجبره أن يكون تابعاً للمزاج الرعوي، إن صح التعبير، فهو في كنف كنيسة الرعية وضمن أبناء الرعية، وهذه حالة مثلى، لكن لم يمنع ذلك من إخفاقات مردُّها تحسُّن أو تردّي العلاقات مع كاهن الرعيّة، أو وكالتها، أو أعيانها، فتراوح العمل الحركي بين هيمنة العمل التقليدي للرعية، وبين اعتبار الحركيين عاملين “خارج” الكنيسة.
لا أريد للعرض السريع أن يوقعني في مغبّة إغفال النجاحات التي حققها الحركيون هنا وهناك، وهي نجاحاتٌ تشي بأن الروح لم يفارق أبناءه، وأنهم ثبتوا في أمانتهم، لكن لا بد دوماً من وقفة اعترافٍ بالخطايا من أجل التوبة عنها.
كان من نتائج هذا الواقع، تحوّل الفرق الحركية إلى فرقٍ نشاطيّة اجتماعية، عملُها له صبغة روحية. وأؤكد هنا أن لا اعتراض لدي على ذلك، إن ترافق ببصيرةٍ وتدبّرٍ وخطةٍ، ليكون العيش في الكنيسة حول الرب هو الهدف، وهو الطريق. لكنَّ الواقع المعاش لا يُبرز هذه الأمور، وإلا ما استمرت الشكوى من الواقع الإرشادي.
ما الذي نريد للمرشدين أن يحققوه ؟
لا شك أن المعرفة الدينية الرصينة الواسعة، بلا انتفاخٍ، مطلبٌ مهمٌ وذو ثقلٍ، ولا شك أن خبرة نقل هذه المعرفة أمرٌ لا يقل أهميةً. لكن هذا يحصرنا في إطار مدرسةٍ دينيةٍ قد لانخرج منها إلى رحاب تيارٍ نهضوي، خصوصاً في ظل نزعتنا المتعاظمة، الظاهرة هنا وهناك، للاقتداء الأعمى والتسلط الأعمى، بين المؤمنين والرعاة.
والحالة المقابلة هي التفرّد والتمرد على ما يظهر أو يُعتقد أنه ضوابط ونظام، بعذر أن ندع الروح يهبّ حيث يشاء. وهي حالة مقبولة ومطلوبة إن ترافقت بروح التواضع والتمييز. وهذا يتطلب ما أوردناه في البدء : تلمذةً وتسليمَ روحٍ.
لذلك، أشد ما أراه مطلوباً هو العودة للتحلق حول الإنجيل، في رعايانا التي ننتمي إليها، وإنشاء جسور تواصل ولقاء تحملنا إليهم وتحملهم إلينا.
أؤكد هنا أننا في مركز دمشق، ورغم الكثير من حالات الجدل والأخذ والرد، لم ننفصل عن كنيستنا عيشاً ونمواً. لكن الأكيد أيضاً أن الحياة الروحية ظهرت في الأخوة أفراداً، أكثر مما فعلت فيهم جماعةً، فلم يعد المركز حاملاً السمات التي نريدها لمن أوقف نفسه للمسيح وأخوته، أو على الأقل لا يحملها بالقدر المطلوب.
بات تعليم المرشد كيفية إعطاء الموضوع، يحتل أولوية قبل الاشتراك معه في الصلاة، أو في الصلاة من أجل الأخوة، وقد فصلت بينهما عامداً لإبراز أهمية كل منهما، وطبعا هما متلازمتان عند من له علاقة صحيحة بالرب والأخوة.
نعم هي أمورٌ من التي نفتقدها كثيراً، رغم أنها ليست معدومةً تماماً، على قدر كونها غير متواترة.
كذلك يشكّل الكتاب المقدس، أو الإنجيل في النطاق الأضيق، تحدياً مهماً للمرشدين، فعلاقتهم به محدودة للغاية وهذه لا تُبنى بدورة إرشاد أو تدريب. وحدّث بنفس الطريقة عن افتقاد القريب، ومشاركة الخيرات، وغيرها من مفردات عيش المؤمن في كنيسة المسيح.
ما أود قوله هو ضرورة الانتباه إلى أن التلمذة ليست تدريباً، قد يكون التدريب جانباً منها لكنه لا يستغرقها كلها، التلمذة هي اشتراك وإشراك في همٍ وشغفٍ … هي نموٌ مشترك لجماعةِ محبين للمسيح، واقترابهم مترافقين مترابطين من صليب الرب له المجد، وهي اشتراكهم معاً في رفع آلامهم وأفراحهم وأحلامهم وخيباتهم، ووضعها تحت قدميه الطاهرتين، لكي يكون كل شيء لهم بالمسيح وللمسيح. هكذا فهمت دعوة الحركة وهكذا فهمت دعوة الكنيسة.
والتلمذة قناة تسليم كالحلقة في السلسلة تربط ماقبلها بما بعدها، من هنا لا بد من المرور على علاقاتنا مع آبائنا الأساقفة والكهنة، للإضاءة على النهج المطلوب للعمل، وبحث السبل المتاحة للتطوير، وإيجاد الحلول بعمل مشترك، دون تفرّدٍ بقرارٍ من أي جهة. فمن ناحية هو جزء مهم من مهمتهم الرعائية إذا أرادوا إتمامها، وقناعتنا أنهم مريدون، ومن ناحية أخرى نحن لا نتنازل عن كوننا في رعايتهم في رحاب كنيسة أنطاكيا، ونؤمن أن الرعاية الصحيحة مسؤولية مشتركة.
ألخص فأقول : إن العيش في الكنيسة، كما عبّر عنه الفكر الحركي المعتمد على الإنجيل، وعلى خبرة الكنيسة خلال عشرين قرناً، كفيل بإضاءة الطريق أمام الكثيرين ليعوا في أنفسهم النزعة إلى “محبة الأخ” فيكونون مصدراً غنياً وواعداً لمرشدين أكفاء، هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى، فإن العيش في الكنيسة يثبّت المرشد أكثر فأكثر في حياة جسد الرب، ويعطيه التجربة والخبرة العملية، التي تصقل معارفه وتعمقها وتزيد ثراءها، وتعيد توجيهها، مما يزيد تأثيره في أخوته الصغار، ويجعله قادراً أكثر على اصطيادهم للمسيح له المجد.
والعيش في الكنيسة، من جهة ثالثة، يكسر حواجز التردد والمجاملات والمجادلات المتبادلة مع الآباء الكهنة، وينقلنا إلى حالة التفاعل العضوي الواجبة حيث تقترف الرعاية الأبوية بالمشاركة الأخوية دون استئثارٍ، ولا استبعادٍ، من أي أحد لأي أحد.
أطرح أفكاري أخاً بين أخوته وابناً أمام آبائه، فيها من الصواب ما باركني به الرب، فاستعملني لفائدة ومنفعة، أما ضعيفها ورديئها، فليسامحني قارئي، ومرضاة الرب هي من وراء القصد.