« أحمل في قلبي عذابات شعب كنيسة أنطاكية وهموم إنسان هذا المشرق. نحن باقون في أرضنا وكل صعوباتنا نطمرها في جلجلة صليب ربنا» البطريرك يوحنا العاشر
٢٦ تشرين الأول ٢٠١٤
توج غبطة البطريرك يوحنا العاشر بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس بقداس إلهي مهيب بالاشتراك مع غبطة رئيس أساقفة أثينا وسائر اليونان ايرونيموس الثاني. أقيم القداس في كنيسة القديس ديمتريوس في أثينا، التي احتفلت بعيد شفيعها، واشترك فيه المطارنة والكهنة من الكنيسة اليونانية والأنطاكية وحضره الوفد الأنطاكي المرافق وحشد كبير من المؤمنين غصت بهم الكنيسة. وفي نهاية القداس كانت لغبطة رئيس الأساقفة كلمة رحب فيها بغبطة بطريرك أنطاكية كنيسة الآباء من أمثال الذهبي الفم ويوحنا الدمشقي، وأكد غبطته أن كنيسة أنطاكية تعيش شهادتها للمسيح وسط هذه الظروف الصعبة. من جهته دعا البطريرك يوحنا في كلمته للسلام في سوريا وفي لبنان مستنكراً كل ما يحدث من ترهيب وتكفير غريب عن واقع عيش المشرق.
وقال غبطته في كلمته:
صاحب الغبطة،
أصحاب السيادة،
“المسيح معنا وفيما بيننا”. أقولها اليوم، يا أحبتي، مصافحاً فيكم، صاحب الغبطة، كل أخ في كنيسة اليونان. أقولها مصافحاً شعبكم الطيب. أقولها، وتتشابك في مخيلتي عبارتان، “شاول شاول لماذا تضطهدني” و”الذي به نتحرك ونحيا ونوجد”. “شاول شاول لماذا تضطهدني” عبارةٌ تعرفها جيداً أسوار دمشق التي آتيكم من شارعها المستقيم. وعرفتها وتعرف نتائجها مدينة الله أنطاكية العظمى التي تسربلت أولاً اسم المسيح. هذه العبارة حفرت عميقاً في نفس شاول وأحالته بولساً وأنبضت فيه روح المسيح فوصل إلى ههنا إلى اليونان ليبشر سكان أثينا بإلههم المجهول؛ بشرهم به بكلمات حفظتها آذان الأكروبوليس، بشرهم بيسوع “الذي به نتحرك ونحيا ونوجد”. هنا لا أشعر بنفسي غريباً فأنا، كما قال سلفي المثلث الرحمة البطريرك الياس الرابع، “في الكنيسة الثانية التي أسسها بولس الرسول بعد كنيسة أنطاكية”.
جئتكم من كيليكية التي أعطت بولس الإلهي ومن أنطاكية بطرس وبولس ومن بلاد إغناطيوس الحامل الإله وثيوفيلوس والذهبي الفم. جئتكم من دمشق التي اعتمدت بيد حنانيا واستنارت بيوحنا الدمشقي. جئتكم من صيدنايا جارة السماء ومن معلولا ربيبة مار تقلا. جئتكم من بيروت كوارتس الرسول ومن صيدا التي غسلت شباك الرب. جئتكم من حلب ومن ظل عامودييها السمعانين. وافيتكم من حمص اليان ورومانوس المرنم. جئتكم من الديار التي أعطت قديس التوبة أفرام السوري. وكل ذلك لأقول أننا في أنطاكية نحمل مجد كنيسة يسوع ولا زلنا نحمله رغم كل الصعوبات وذلك بقوة إيماننا بالله ورجائنا به وبعونكم ومساندتكم يا إخوتي.
نعم يا أحبة، أنا أجيء إليكم حاملاً لعذابات أنطاكية أيضًا. لعذابات شعب في سوريا يطلب الحياة الكريمة. شعب يقتل، ويهجر، ويَنْزح أبناؤه إلى العراء، وتهدم بيوته وكنائسه ومساجده، ويجوع أطفاله ويموت مرضاه من غلاء الدواء أو من انعدام الطبابة، شعبٍ طيب مصلوبٍ، يتوجع توجعًا شديدًا من وطأة إرهابٍ وتكفيرٍ، شعب يتوق وله الحق أن يتوق إلى عودة الأمان أولاً إلى دياره، شعبٍ يخاف ويقلق على مصيره ومستقبلِ أولاده.
جئتكم وشمعتي مضاءةٌ من أجل لبنان الذي يرزح بدوره تحت صليب شقاء هذا المشرق. جئتكم من العراق الذي عانى ويعاني الويلات. جئت لأقول إن كل ويلات الدنيا نطمرها في جلجلة صليب ربنا وكل الصعوبات ندثرها بحجر قبره الفارغ وكل العوائق ننساها عندما نتذكر أن أجدادنا كانوا هناك منذ ألفي عام وذريتهم باقية وستبقى.
وكونيَ أحمل مجد أنطاكية وعذاباتها فهذا يؤهلني أن أقول أن المسيحيين هم جزء مكون في هوية وتاريخ الشرق الأوسط، وبدونه لا تفقد هذه المنطقة هويتها فحسب لا بل خصوصية وجودها الحضارية. وهذا يقودني لأن أؤكد أن أجراس كنائسنا، التي عُلّقت من غابر الأيام، سوف تظل تُقرع بتناغٍم مع مآذن الجوامع وتعاليم الديانات الأخرى. نحن، مسيحيي تلك الأرض، منغرسون فيها وراسخون رسوخ الأرز في لبنان وباقون بقاء الزيتون في جبل الزيتون. فيها وُلدنا وفيها سنبقى وإلى صدورنا نضم ثراها حين نغادر إلى الدار الباقية. ومن هنا، فإن هجرة المسيحيين عن المشرق هي هجرة المشرق عن تاريخه وكينونته، وتغربهم عنه هو تغربه عن ذاته. ورسالتي هنا للعالم أجمع: وقفُ النزيف المسيحي في الشرق مرهون بالجهود الرامية لتوطيد السلام فيه. وليتحمّل المجتمع الدولي برمته والحكومات الدور المناط بهم في سبيل إحلال السلام، ووقف الأعمال الإرهابية التي تطال المدنيين العزّل، وإطلاق المخطوفين، وعلى رأسهم المطرانان يوحنا إبراهيم وبولس يازجي، المختطفان منذ أكثر من سنة ونصف وسط صمت دولي معيب وارتهانٍ لمصالحٍ على حساب الارتهان للإنسانية.
بين أنطاكية وأثينا أخوّة الإيمان ووشائج التاريخ. بينهما يذوب منطق المديونيّة ويعلو منطق الأخوة المتكافلة الصادقة. لقد عرفتكم شخصياً يا صاحب الغبطة وعرفت فيكم أخاً عزيزاً زار كنيستنا وديارنا وقت غادرها كثيرون وذلك في أواخر أيام حبرية البطريرك إغناطيوس. وعرفت سلفيكم المثلثي الرحمة خريستوذولس وسرافيم. وفي بلادكم تلقيت علومي اللاهوتية وفي أديارها عشت ورأيت كيف يُعجن اللاهوت بخمير التواضع ويتجسد محبةً وصلاةً. لقد أعطت الكنيسة اليونانية الكثير لكنيسة أنطاكية، فقد استقبلت الكثير من أبنائنا وفتحت لهم أبواب معاهدها وجامعاتها فتخرجوا منها كهنة ومطارنة ليرعوا شعب المسيح في ديارهم. والكنيسة اليونانية واكبت وبشكل خاص انطلاقة أنطاكية الأرثوذكسية في العصر الحديث. والبلمند خير دليل على هذا. فقد انطلق المعهد اللاهوتي سنة 1970 واستفادت أنطاكية من الخبرة اليونانية فعهدت بعمادة المعهد إلى سيادة المتروبوليت بندلايمون رودوبولس وارتبط معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في البلمند بالكنيسة اليونانية التي رفدته بخيرة أساتذتها وببرنامج للغة اليونانية، أسهمت فيه الحكومة اليونانية، يتيح لطلابنا فرصة الوصول إلى دراسة اللاهوت بلغة الآباء. وكل ذلك يؤهلنا أن نقول إن ما يجمعنا باليونان كبلد وشعب هو حنينٌ لغيرةٍ رسوليةٍ لإيمان أرثوذكسي واحدٍ جامعٍ تذوب فيه الإثنيات في بوتقة الأرثوذكسية وتتشابك فيه اللغات والعادات أمام مائدة الافخارستيا وأمام سيدها الذي خاطبنا بلغة المحبة التي انسكبت على صفحات إنجيله، الذي توسّل لغة العصر آنذاك، أي اليونانية، ليوطن الرب في القلوب.
أرثوذكسياً نحن أمام استحقاق كبير أيها الإخوة، وهو المجمع الأرثوذكسي الكبير المزمع عقده بعد سنتين. ولأننا نريد نجاح هذا المجمع نقول. يهمنا أن يخرج هذا المجمع بقرارات تتعدى ترتيب الكراسي ويهمنا أن يلامس حياتياً وإيمانياً ما يريد أن يسمعه لا اللاهوتيون فقط والدارسون مع احترامنا لهم جميعاً لا بل كل الشرائح ما أمكن. يهمنا أن يكون المجمع تجسيداً لما نسميه أورثوبراكسيا. ومن هنا حرصنا على حل كل الخلافات التي من شأنها ان تعيق جلوس الإخوة معاً ولعل أهمها هو قضية تدخل بطريركية القدس في قطر وإرسال الأخيرة “رئيس أساقفة” على أرضٍ أنطاكيةٍ. يهمنا أن يتوقف هذا المجمع أمام قضية لا تقل أهمية عن كل الأجندات، وهي القضية المسيحية المشرقية التي برزت بجلاء بعد المتغيرات الأخيرة في سنة 2011 تحت مسمى “الربيع العربي”. لماذا علينا دوماً أن ننظر إلى التاريخ ونكون شاهداً بدلاً من فاعل فيه، خصوصاً أن الأرثوذكسية في أيامنا لا تنقصها القوة. فلنعد للوراء مائة عام وننظر ماذا حل بديموغرافية البطريركيات الأرثوذكسية الأربعة القسطنطينية، الاسكندرية، أنطاكية وأورشليم. ألا تستدعي المائة سنة الأخيرة والأحداث الحاصلة في سنوات الثلاث الأخيرة وضع سبل ترسيخ المسيحيين في ديارهم الأولى كأول بند على أجندة المجمع الكبير؟ ونحن هنا لا نفكر بمجد دنيوي، إذ ليس لنا مدينة باقية. ولكن لنا هويةٌ، هي التي يجب أن تبقى.
ونجاح هذا المجمع هو شهادةٌ أرثوذكسية واحدة في عالم اليوم. وهذه الشهادة هي لبنةٌ أولى لشهادة مسيحيةٍ في عالم اليوم أيضاً. نحن في أنطاكية بوابة الأرثوذكسية الرومية على الكنائس اللاخلقيدونية وما يجمعنا بهذه الكنائس هو أكثر مما يفرقنا. نتمنى ونعمل دوماً أن يتفهم الجميع أن منطق الجغرافية والتاريخ والواقع اللاهوتي الحاضر يحتمان علينا تقارباً وسعياً حثيثاً نحو إزالة كل رواسب التاريخ. وكنيسة أنطاكية الرومية الأرثوذكسية هي بوابة الأرثوذكسية على العالم العربي والإسلامي وذلك بحكم عوامل التاريخ والجغرافية واللغة. وهذه البوابة جزء من جسدٍ أرثوذكسي كبير رأسه المسيح وقلبه الإيمان الذي سلمه لنا رسله الأطهار.
باسمي وباسم الوفد المرافق لي، أتوجه بالتحية إلى السيد كارولوس بابولياس رئيس الجمهورية والسيد أنطونيوس سامارس رئيس الحكومة رافعاً صلاتي إلى الرب أن يبارك جهودهما لخير اليونان.
وفي الختام، أتوجه إليكم بالشكر، يا صاحب الغبطة، وأصلي وإياكم من أجل اليونان العزيزة على قلوبنا. عسى أن يزيح الله كل كرب عن هذا الشعب الطيب وأن يكلل جهودكم في خدمة إنسان هذه البلاد بالتوفيق. نطلب منكم بلسان القديس إغناطيوس الأنطاكي “أن تصلوا من أجل الكنيسة التي في أنطاكية التي المسيح ناظرها ومحبتكم”. ونسأل الله العلي أن يرسل سلامه إلى القلوب وأن يعطينا فرصة استقبالكم في سوريا ولبنان.
ومن جديد: المسيح معنا وفيما بيننا. كان وكائن ويكون.