ملذات وهموم العالم
الصلاة هي فنّ الفنون، تجمع بين السهولة والصعوبة في آنٍ واحد. كلّنا نقول إنّنا نحبّ الله، ونحن صادقون، ولكن إلى حدٍّ ما. مَن مِنّا صَلْبٌ في محبّتِه للّه؟ مَن مِنّا لا ينكسر حديثه مع الله إذا ما ضجر أو تعب أو تململ؟ المحبّة الصادقة ليست صادقة في المواقف بل في المسيرة. الصدق في اللحظات جيّد ولكن ليس بكافٍ. الصدق لا يبرز إلّا على مدى الزمن. يحتاج الصدق إلى الزمن كي ينجلي، والزمن بدوره هو الكفيل بأن يُمحّص محبّتنا لِمَن نَدَّعي بأنّنا نحبّهم. لا أحد منّا يرضى بمحبوب يحبّه قليلاً، إذ على الفور ننبذه ككاذب ومُدَّعٍ في محبّتِه لنا، فكم بالحري الله، كيف يمكن أن ننادي ونقول إنّنا نحبّ الله بالشفاه، في حين أنّنا بالأفعال قد رتّبناه في آخرِ اهتماماتنا. أمام التعب، أمام الضجر، أمام الإحباط، أمام الروتين، أمام المتع، أمام الهموم والاهتمامات والمشاكل يسقط الله من حياتنا، فلا نعود نصلّي أو نؤجل صلاتنا وتبقى أبواب الصلاة موصدة، وفي أحسن الأحوال نكتفي بصلاة قليلة من باب الواجب، لكنّها سرعان ما تذوي و تذبل.
في مجتمع استهلاكيّ يميل الكلُّ فيه إلى الراحة وإشباع الرغبات، تتشوّە المحبّة. إذ، ومن دون أن نشعر، ترتبط محبّتنا برغباتنا وبإشباعها. وبسبب غزارة المنتجات ووفرتها وجدَّتها، يتوافر لدى الرغبة دائماً الموضوع الملائم الجديد لكي تشتهيه وتسعى إليه في كلّ مرّة. تعمل هذه الآليّة كدوّامة، تسحب كلّ من يعلق بها.
وهكذا يقضي الإنسان سني حياته مُنهكاً، يُطفِئ عطشه بعطش أكبر من دون أن يرتوي. الشصّ الذي علق فيه، هو التصاق محبّته بإشباع رغبته. ولهذا فمن ميزات ابن مجتمع الاستهلاك أنَّه يأكل ولا يشكر، أنَّه يُحصِّل ولا يفرح، وإذا تساءلنا لماذا؟ لأنّه يرى أنَّ هناك الكثير من الأشياء التي لم يحصل عليها بعد، فلماذا عليه أن يشكر أو أن يفرح، طالما أنّ رغبته لم تحصل على كلّ شيء بعد؟!
ولهذا، إذا أردنا توصيف “نفس” ابن المجتمع الاستهلاكيّ، فهي “النفس الفاقدة الشِّبع”، وهو التوصيف ذاته الذي ينطبق على يهوذا الخائن.لهذا إذا تساءلنا من هو الله بالنسبة إلينا نحن أناس هذا المجتمع؟ أغلب الظن أنَّ الله استحال إلى إله خادم لرغباتنا، يترتّب عليه أن يلبّي مشتهياتنا، وطبعاً يبقى اعترافنا بألوهيّته وتسبيحنا له رهن جوابه ومدى سرعته في تلبية رغباتنا. ولكن ماذا يعني أنّ محبّتنا ملتصقة بلذائذ هذا العالم؟ هذا ليس سوى دليل على أنَّ كياننا بأكمله يتفاعل بكليّته، ومن دون الله، مع هموم هذا العالم واهتماماته ومشاكله أو مع متعه وملذّاته. فمَنْ التصق بتلبية لذة ما أو غرق في همٍّ ما، هو شخص في الأساس يُستنزف ويُنتهك من جهة من قبلِ هموم ومشاكل هذا العالم، أو غارق في واحات كاذبة من المتعة تُغرِّرَەُ، بحيث إذا ما مضى إليها طمعاً بتعزية ما، يُلطِّف بها أتعابه أو أحزانه أو ضجره، سرعان ما تُغرقه أكثر وأكثر في الإحباط والعدميّة.
لهذا علينا، إذا أردنا أن ننجح في جعل الله موضوعَ رغبتِنا، أن نجعله محورَ حياتِنا كُلِّها، أن نعطيَهُ الوقت الكافي من يومنا، وعندَ ذلكَ يَلِجُ في حياتنا ويقلبُها رأساً على عقب. وهنا علينا أن نعي، أنّ الله قد لا ينزع بالضرورة عنّا أحزاننا ومتاعبنا ومشاكلنا، ولكنَّه حتماً يُعيننا على حملها واحتمالها، وسيُرينا في خضمِّها عنايته ورعايته بنا. “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْوَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ”.
نشرة الكرمة
26 تشرين الأول 2014