حين تستعبدنا أدياننا ومذاهبنا

الأب جورج مسّوح Wednesday October 29, 2014 176

يجمع أهل الأديان، بعامّة، على القول بأنّ الأديان إنّما جُعلت لخدمة الإنسان، لا الإنسان لخدمة الأديان. فالإنسان هو قمّة الخلق وأكرم المخلوقات، فالله خلقه “على صورته ومثاله”، وجعله “خليفةً في الأرض”، وسلّمه المسكونة أمانةً.

ولا ننسى أيضًا أنّ الإنسان وُجد قبل ظهور الأديان بملايين السنين. والإنسان وحده، من بين المخلوقات المرئيّة كافّة، قد وعده الله بالحياة الخالدة. كلّ شيء سيبيد، تقول الأديان، ولن يبقى إلاّ الله ومَن اختارهم من البشر ليحيوا بمعيّته إلى الأبد. حينئذ، حتّى الأديان والشرائع والوصايا ستبيد، لأنّها، في حضرة الله، سوف تكون بلا جدوى.

بيد أنّ وقائع التاريخ ليست بهذا البهاء الذي تبتغيه النصوص التأسيسيّة والنظريّات اللاهوتيّة أو الكلاميّة. فالتاريخ يرينا كيف انقلبت المفاهيم رأسًا على عقب، ذلك أنّ الإنسان بدل أن يكون محور الاهتمام لدى القائمين على الأديان، أضحى الإنسان أداةً طيّعة في أيدي أولي الأمر الدينيّين. وهؤلاء استغلّوا المشاعر الدينيّة لدى أتباعهم وحرّكوها، تحت ستار الذود عن الدين، لخدمة تحالفاتهم السياسيّة أو العسكريّة مع رؤساء هذا العالم.

الأديان التي جُعلت في الأصل لخدمة الإنسان تجعل الإنسان خادمًا لها حين تتحوّل إلى إيديولوجيّات ينبغي الدفاع عنها بأيّ ثمن. فما شهدناه، وما نزال نشهده، من صراعات على مرّ التاريخ إلى يومنا هذا كان الدين هو المحرّك الأساسيّ والرافعة الأساسيّة التي جرت تحت شعاراته الحروب بين الأمم أو في البلد الواحد.

وفي كلّ هذه الحروب تمّ سحق الإنسان باسم الأديان، فعوض أن يكون سيّدًا على الخليقة، كما شاءه الله، صار خادمًا لمؤسّسته الدينيّة برجالها وفقهائها وكهّانها والقائمين على أمورها. صار الإنسان عبدًا لشيخه ولمعلمه كالمريد الذي لا مشيئة خاصّة له، كالخاتم في إصبع مرشده. أمسى الإنسان الوسيلة عوض أن يكون الهدف. صار موت الإنسان في سبيل الدين هو الهدف، وبطل أن يكون الهدف هو الحياة في سبيل الإنسان.

أمّا حالنا، نحن اللبنانيّين، فلا يختلف عن هذا الوصف. يستثار الإنسان على مرّ الساعة من أجل الذود عن حياض الطائفة أو المذهب. مجد الطائفة أو عزّة المذهب يستأهلان التضحية بالحياة في سبيلهما. وبدل أن يكون الله هو موضوع العبادة والسجود، يأخذ المذهب مكان الله. ليس الشرك أن يتّخذ الإنسان إلهًا آخر سوى الله فحسب، بل الشرك أيضًا أن يصبح المذهب أو المعتقد موضوعًا للعبادة إلى جانب الله. لقد خلق الله الإنسان حرًّا، أمّا الإنسان فيستعبد نفسه بمشيئته لمذهبه ومعتقداته.

الإنسان في حالة إشراك، في حالة عبوديّة لن ينقذه منها سوى إعادة الاعتبار إلى العقل الذي تمتدحه النصوص الدينيّة كافّة. فعوض العقل يعمّ الجهل والتحليق في الغيبيّات، وعوض صنع المستقبل تسود العودة إلى الماضي السحيق واستحضار النزاعات.

أمّا إذا بقي الخطاب الدينيّ، كما هو اليوم، تحريضيًّا وفتنويًّا في سبيل رفعة شأن الأديان أو المذاهب فسوف يفقد الإنسان أكثر فأكثر من إنسانيّته التي خلقه الله عليها. ولن يكون من معنًى حقيقيّ للأديان إذا لم يتحرّر الإنسان من عبادتها، وردّ العبادة لله وحده الذي لا شريك له.

 

الأب جورج مسّوح

“النهار”، 29 تشرين الأول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share