الإسلام صادره التكفيريّون. بات لهم القول الفصل في تقرير مصير الأوطان والشعوب. باتت لهم “دولة” على رأسها “خليفة”. يستبيحون القتل والنهب والتهجير. وقد طرقوا، مؤخرًا، أبواب لبنان، وباتوا في ديارنا. لكن، مَن المسؤول عن الحالة الجهنميّة التي وصلنا إليها؟
قلنا، منذ سنة ونيّف، في مقالة عنوانها “نهاية الوسطيّة في الإسلام؟” (النهار، 5 حزيران 2013)، إنّ الأزمة التي تعصف ببلادنا سوف تقضي على ما درجت الأدبيّات الدينيّة على تسميته بالوسطيّة الإسلاميّة أو بالاعتدال. فالفرز المذهبيّ الذي تشهده ساحات بعض الدول العربيّة المتنوّعة المذاهب، ومنها سورية ولبنان والعراق والبحرين، يدفع العديد من المرجعيّات المذهبيّة إلى الانزلاق نحو المزيد من التشدّد وصولاً إلى التكفير.
نحن، اليوم، ندفع أثمانًا باهظة بسبب إخفاق الإسلام المعتدل في تقديم اجتهادات جديدة تجيب عن التحدّيات التي نشأت منذ قرن تقريبًا، مع انتهاء الخلافة وظهور الدولة الوطنيّة. صحيح أنّ العديد من المفكّرين المسلمين منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم حاولوا الاجتهاد في مسائل شتّى، لكنّ واقع المجتمعات الإسلاميّة قد تقهقر نسبةً إلى التحدّيات المتجدّدة التي فرضتها الحداثة والعصر الحديث والعولمة، وعدم مواكبة الفكر الإسلاميّ لما يدور حوله من أحداث وتطوّرات. فاكتفت المؤسّسات الدينيّة بامتداح الفكر التقليديّ الوسطيّ، وجعلته السقف الذي لا يمكن تجاوزه، بدلاً من أن تجعله القاعدة التي تبني عليها فكرًا إسلاميًّا معاصرًا يقدّم أجوبة تلائم الحياة المعاصرة، وتُخرج هذه المجتمعات ممّا يعيقها عن اللحاق بركب الحضارة العالميّة.
لم تكن المؤسّسات الدينيّة، الوسطيّة بعامّة، فاعلة بحيث تقدّم أجوبة تلبّي مقتضيات العيش في العصر الحديث. كان لا بدّ من أن تؤدّي دورها الكامل في مساعدة الدولة على التحرّر من تشدّد المتشدّدين كي تسنّ قوانين وتشريعات لا تفرّق ما بين مواطن وآخر، أو مذهب وآخر. لكن، على العكس من ذلك، كان ثمّة تواطؤ ما بين الأنظمة والمؤسّسات الدينيّة. فالأنظمة أخضعت المؤسّسات الدينيّة لها في مقابل إرضاء المؤسّسات الدينيّة بعدم إجراء إصلاحات في دساتيرها. وفي الوقت عينه استقالت المؤسّسات الدينيّة من الاجتهاد الذي هو مهمّتها الأولى كيلا نقول الوحيدة.
أين هو الإسلام الوسطيّ الذي لم يستطع القضاء على التعصّب المذهبيّ الذي يقسّم المسلمين ما بين سنّة وشيعة؟ فما نشاهده اليوم هو نتيجة إعلاء الرابطة المذهبيّة على كلّ ما عداها من الروابط الدينيّة أو القوميّة أو الوطنيّة. فبعد حوالى القرن على سقوط الدولة العثمانيّة ونشوء الدول الوطنيّة، ما زالت العصبيّة المذهبيّة والتعصّب المذهبيّ أقوى من العصبيّة الوطنيّة، على الرغم من الكلام المعسول على الرابطة الوطنيّة والوطن الدائم والنهائيّ.
وفي هذا السياق، كان جمال الدين الأفغانيّ (ت 1897) يعتقد أنّ ما من رابطة، ولا حتّى حبّ الوطن، يمكن أن تحلّ في قلوب المسلمين محلّ الرابطة التي أنشأها الإسلام. لكنّنا اليوم، يسعنا القول إنّ ما من رابطة، ولا حتّى الرابطة الإسلاميّة، يمكنها أن تحلّ محلّ الرابطة المذهبيّة السنّيّة أو الشيعيّة.
ثمّ يأتيك مَن يلوم أبناء “الأقلّيّات” لأنّهم يعلّون شأن هويّاتهم الدينيّة والعرقيّة على سواها من الهويّات الجامعة. ولكنّ معظم اللائمين ينطلقون في انتقادهم من مواقف مذهبيّة ضيّقة، ومن غلبة عدديّة تفترض أنّ لها الحقّ بأن تفرض ما تشاء على الأقلّيّات التي ليس لها سوى أن تخضع، طوعًا أو كرهًا، لمشيئة الغالبيّة.
في الواقع، لم يفلح الفكر الإسلاميّ في حلّ معضلة الأقلّيّات، ذلك لأنّه يقسم المجتمع إلى قسمين: المسلمون من جهة، وغير المسلمين من جهة أخرى. الفكر الإسلاميّ نفسه هو المسؤول عن استفحال الظاهرة الأقلّويّة، وعن عدم إيجاد الوسائل التي تسمح بانخراط أبناء الأقلّيّات في المجتمع الإسلاميّ تدفعهم إلى أن يكونوا أكثر التزامًا بقضايا المسلمين وتطلّعاتهم.
المشكلة الأساس لدى الساعين إلى الدولة الإسلاميّة تكمن في عدم احترامهم للتنوّع السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، وفي عدم احترامهم لخصوصيّات الجماعات التي تشكّل النسيج الوطنيّ الجامع لكلّ المواطنين. الدولة الدينيّة غير حياديّة إطلاقًا، بل تمييزيّة، لأنّها، وفق دستورها وشريعتها، تصنّف الناس درجات، فتجعل ممّن لا يجمعهم بها الدين الواحد أو المذهب الواحد مجرّد رعايا مسلوبي الإرادة والحرّيّة.
لذلك يكون شرعيًّا خوف أبناء الأقلّيّات من قيام حكم دينيّ، فهم لا يرغبون في رؤية الأمراء المذهبيّين يحكمونهم باسم اللَّه تحت غطاء فقهيّ متخلّف عن العصر الحديث. فالأمّة الإسلاميّة، قديمًا، كانت تحيا في إطار دولة الخلافة الواحدة. أمّا في عصرنا الحاضر، فقد نشأت على أنقاض دولة الخلافة دول عدّة على أساس وطنيّ أو قوميّ أو قطريّ. وصارت الحاجة ماسّة إلى رؤية جديدة تواكب الوقائع الجديدة، رؤية تؤسّس لمواطنة حقيقيّة تساوي ما بين جميع أبناء الوطن الواحد.
فلا يجوز في إطار الدولة الوطنيّة، مع كلّ ما تعني هذه العبارة، أن يبقى فقه العلاقات ما بين المسلمين وغير المسلمين كما كان سائدًا منذ قرون. وفي هذه المسألة تحديدًا ليس الفرق بيّنًا بين ما يسمّى بالإسلام الوسطيّ، أو الإسلام المعتدل، أو سواه من أوصاف تطلق على الإسلام هنا وثمّة.
الحلّ المجدي الوحيد، كما يراه أبناء الأقلّيّات الدينيّة مع العديد من المسلمين، يكمن في قيام الدولة التي عمادها المواطنة الكاملة القائمة على دستور عادل لا يميّز بين المواطنين على أساس دينيّ أو مذهبيّ أو عرقيّ. ليس النظام الديكتاتوريّ الذي يحكم بقبضة من حديد ضمانًا للأقلّيّات ووجودها، ولا هو الذي يحميهم، فإنْ قضي عليه قضي عليهم. وليس النظام الدينيّ الذي يحكم بحقّ إلهيّ مزعوم ضمانًا لهم إذ ينتقص من مواطنتهم ويعود بهم إلى نظام الرعايا من الدرجة الثانية. النظام القائم على الحرّيّة والمساواة هو الضمان الوحيد لهم ولمستقبل أولادهم.
مأزق العلاقات ما بين الجماعات الدينيّة، أكثريّات وأقلّيّات، يتنامى يومًا بعد يوم. لكن، يحقّ للأقلّيّات أن تتوق إلى أنظمة متطوّرة على صعيد احترام حقوق الإنسان.
الحلّ الحقيقيّ، بعد القضاء على بؤر الإرهاب، يكمن في تحرّر المؤسّسات الدينيّة الوسطيّة والمعتدلة من قيد الأنظمة وتقديم اجتهادات جديدة تأخذ في الاعتبار أنّ عمر الإسلام ليس ثلاثة قرون، بل أربعة عشر قرنًا.
مجلة النور، العدد السابع 2014، ص 338-339