الحبّ الأول
يتوجّه إلينا الرسول يوحنّا في سفر الرؤيا، وهو يكتب إلى ملاك الكنيسة الّتي في أفسس، يقول: “ولكنّ مأخذي عليك هو أن حبّك الأول قد تركته . فاذكر من أين سقطتَ، وَتُبْ، واعمل أعمالك السّالفة…” (رؤيا 2: 4 و5).
يدعونا الرسول الحبيب، وكلّنا خطأة ابتعدنا عن حبّنا الأول، أن نتوب ونعود إليه، أي أن نرجع إلى الصّدق واستقامة الإيمان والمسلك واللّسان، إلى حضن أمّنا الكنيسة، كما عاد الابن الضالُّ إلى حضن أبيه، فتقدّسنا الحياة الإلهيّة الجارية فيها: “ها أنا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر”.
الحبّ الأوّل هو أن نرجع جماعة مؤمنين تمارس مهمّتها في تقديس العالم ورعايته، على مثال السيّد المسيح الّذي هو “الكاهن الأعظم والرّاعي الصّالح”، فنتكرّس كلّنا ونتجنّد ونتقدّس لنرفع الكون كلّه ونُدْنِيَهُ من السّماء، فيصير “أرضًا جديدة”. والتكريس هذا لا يعني أن نُقبل كلّنا إلى الكهنوت الخاصّ بل أن نمارس الكهنوت الملوكيّ، أي أن يتقنَ كُلٌّ منّا العمل الّذي يقوم به في هذا العالم، مهما كان هذا العمل. الإتقان وجه أساس من وجوه التكريس.
من غير المفهوم أن يحافظ مسيحيّ على “الحب الأوّل” ويهمل صناعته، زراعته، مهنته، وظيفته وعمله، “أن يكون يومنا كلّه كاملاً مقدّسًا سلاميّا…” هكذا نصلّي في نهاية القدّاس الإلهيّ. المسيحيّة إذًا ليست محصورة في معبد، إنّها أريجٌ يفوح عبقه ويعمّ الأرض والآدميّين جميعهم. الإتقان ترجمة إيمان وتجسيد للفضيلة العُظمى، المحبّة.
يعتبر المسيحيّ الصّادق، المؤمن المستقيم، أنّ العمل الّذي يتعاطاه في هذه الدّنيا هو مسؤوليّته المسيحيّة الأولى، هو مهمّته الكهنوتيّة الّتي خصّه الله بها، “وهو الّذي أعطى بعضهم أن يكونوا رسلاً وبعضهم أنبياء وبعضهم مبشّرين… ليجعل القدّيسين أهلاً للقيام بالخدمة، لبناء جسد المسيح” (أفسس4: 11 و12).
مِن أُسُسِ العمل بروح الإنجيل وعلى حسب قلب الله أن نقرّ بأنّ وعي مسؤوليّتِنا المسيحيّة يبدأ في الحياة، في البيت، في العلاقات العائليّة، في الوظيفة والمهنة والصّنعة. في إتقانٍ وكمالٍ نسعى إليهما في حياتنا اليوميّة: بالنسبة للتلميذ في مدرسته، بالنسبة للطالب قي نجاحه وغناه الفكريّ، بالنسبة للعروسين في حياتهما الجديدة والنّجاح فيها، بالنسبة للحرفيّ في الجمال والدّقة، وكذلك لصاحب المهنة والوظيفة، وللعامل والمزارع والفنّان والمفكّر. كلّنا مسؤول عن دنيانا لنزرع الخير فيها ونجمّلها ونبدع فيها فيسودها روح الرّب في عدل وسلام وطمأنينة وجمال.
لا نرى هذا الأفق مفتوحًا بوضوح ضمن تعداد المسؤوليّات المسيحيّة اليوم. لنا نحن المؤمنين يأتي تذكير الرّسول يوحنا اليوم “بالحبّ الأوّل”. لعلّنا نتوب ونعود إليه ونتشبّث به. “اليوم أوان التوبة”. هكذا نصبح شهودًا للربّ … إلى أقاصي الأرض.
نشرة الكرمة
16 تشرين الثاني 2014