الإخوة والأبناء الأحباء بالرب،
“وقد بنيتم على أساس الرسل والأنبياء وحجر الزاويّة هو يسوع المسيح نفسه. الذي به ينسق البنيان كله فينمو هيكلاً مقدَّساً في الرب، وفيه أنتم أيضاً تبنون معاً مسكناً لله في الروح القدس”.
كلام الرسول بولس اليوم هام جداً، وخاصة فيما يخصُّ علاقتنا مع الله، وإنعكاسات هذه العلاقة على حياتنا الإجتماعية والشخصية، وكل نواحي الحياة مهما تعددت ومهما كثرت.
بالحقيقة إن عمل الروح القدس ظاهر في حياة الجماعة بعد صعود الرب الى السماء، وجلوسه عن يمين الله الآب. وظهور عمله ندركه مما حدث مع الكنيسة، والمدوّنة أحداثها في الكتاب المقدس أعمال الرسل، وهذا ما وعد به الرب يسوع جماعة المؤمنين: “أرسل لكم المعزي روح الحق الذي من الآب ينبثق وهو يرشدكم الى جميع الحق”.
ولكن السؤال: هل عمل الروح القدس هو في الإرشاد والتذكير خشية من النسيان؟ أم عمله كياني أيضاً؟ كما يؤكد لنا الرسل القديسون، والأنبياء الإلهيون، والآباء المتوشحون بالله، عمل الروح القدس هو عمل بشاري، ولكنه عمل تقديسي وكياني، وبالتالي كما يقول الرسول بولس: “لأنّ الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح والإيمان والحق… وليرشد الرب قلوبكم الى محبة الله وصبر المسيح” (2تس13:2)، أفسس: “يا إخوة اسلكوا كأولاد النور” “فإن ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق”… “لا تسكروا بالخمر التي فيها الدعارة بل إمتلئوا بالروح”، وفي رسالته الى أهل غلاطية يكتب الرسول بولس: “يا إخوة إن ثمر الروح هو المحبة والفرح والسلام وطول الأناة واللطف والصلاح والإيمان والوداعة والعفاف… فإن كنا نعيش بالروح فلنسلك بالروح أيضاً”.
ويشهد النبي يوئيل على عمل الروح في حياة المؤمنين فيكتب: “ثمَّ أسكب روحي على كلِّ بشر فيتنبأ أبناؤكم وبنتاتكم، ويحلم شيوخكم أحلاماً ويرى شبابكم رؤى”. ومن هذا يتضح لنا أن عمل الروح القدس ليس في جعل حياة الناس على الأرض مستقيمة وذا طابع أخلاقي لا تشوبه شائبة فقط بل وتجعل حياة الناس مقدَّسة، أي يتم التواصل بين البشر والله، بحيث أن البشر يصبحون قديسين. وهكذا يدعونا الرسول بولس: في رسالته الى أهل رومية وفي غيرها أننا قديسون بنعم ومواهب الروح القدس التي أعطيت لنا. والروح يقودنا الى جميع الحق، لأنه يأخذ مما للرب ويعطينا ويقودنا في سبل السلامة، والى جميع الحق. ونحن بهِ نولد في جرن المعمودية أبناء لله الحي، هو الذي يصنع معنا العظائم، ويتغلغل في مفاصل أجسادنا حتى نصبح نحن أيضاً على ملء قامة ربنا يسوع المسيح، ومولودين من جرن المعموديّة على صورته ومثاله. ونجمع نعمة في أجسادنا كما يجمع الإنسان الأشياء المفيدة له.
وهكذا عندما يتكلَّم الآباء عن نعم الروح في حياتهم ، ويكتفون من الدنيا بأقل من إحتياجاتهم فهم صادقون لأنهم إذ ذاك يكونون قد صاروا أحراراً وغير مستعبدين لشيء. بل طائعين لناموس يسوع المسيح، وقد طلب الى تلاميذه أن يعلِّموه لجميع الناس، وأهم ما في هذا الناموس ما قاله هو أن: “أحبوا بعضكم بعضاً”، وفيه “أن نصلي بلا إنقطاع”، وأن نكون رحماء، وغير مشتتين في حياتنا العالميّة بين هذا وذاك، بين ما صنعت هذه، وما فعلت تلك. بل أن نطلب دائماً معونة الروح القدس لتصويب حياتنا لنبقى ثابتين على أساس ربنا يسوع المسيح الذي وضعه. وهكذا فلنصلي الى الله أن يعطينا روحاً رئاسياً، وقلباً نقياً حتى نتمَّ في حياتنا ناموس المسيح فتصبح أجسادنا هياكل الله الحي، ويشهد على حدوث ذلك العجائب الكثيرة الواردة في الكتاب المقدس، وكتب الآباء القديسين والصائرة بقوة الله. وقوّتها لا تدل فقط على تقديس الإنسان بل وعلى تقديس الطبيعة.
ومن لم يستطع أن يسمع لدعوات الروح لإتمام عمل ناموس المسيح سيتوجه لإتمام عمل ناموس هذا العالم المادي، ويصبح عبداً وشريراً، ومتكبراً، ومالكاً لكل الصفات التي هي عكس ثمار الروح التي ذكرناها سابقاً عن كلام الرسول بولس، وفوق هذا وذاك يصبح الإنسان غبياً. يقول أحد الآباء المعاصرين: “إن النجاح المادي في كثير من الأحيان يعني فشلاً روحياً عظيماً”. وهذا الغباء يظهر لنا في مخاطبة الإنسان الذي أخصبت أرضه لنفسه لأنَّه جهل أن روحه قد تؤخذ منه في أي وقت. وأنه بالإستعدادات التي كان يهيئها قد بدا أنَّه بلا رحمة، ونسي أنه سيحاكم أمام منبر الله الرهيب بناءً على ما صار هو إليه، وبالتالي محاكمته ستكون بلا رحمة، ولن يجد الله فه شيئاً منه فيحكم عليه بحسب ما اختاره هو لأنّ هذا العالم سيحرق ويفنى بحسب شهادة الرسول بولس.
إذاً أيها الإخوة الأحباء، نبني ذواتنا هياكل لله بالروح القدس بناءً على الأعمال الفاضلة التي نقوم فيها، ونمتلك نعم الروح القدس فنصير روحانيين لأن هذا هو مرتضانا ومبتغانا فنتحرر من العالم ومادياته وشهواته ممجدين الله الذي هو وحده القدوس ومنه كل قداسة.
نشرة البشارة – عكار
23 تشرين الثاني 2014