التعالي والتساوي – المطران جورج (خضر)

mjoa Saturday November 29, 2014 92

التعالي والتساوي – المطران جورج (خضر)

قال الله لك إنه في التعالي في حصرية عبادته: “أنا هو الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، لا يكن لك إله سواي”. هذا هو تعاليه عن كل المخلوقات بحيث لا يُشبّه بسواه ولا يشبّه سواه به. إلى هذا، هو معنا بالمحبة وفي هذا تنازل لأن المحبة تفترض شيئاً من التساوي. في العربية نقول إنه العلي أي العالي المطلق إلى قولنا إنه محب حتى ذهبت المسيحية إلى أنه محبة. هو جامع الصفات بمعنى ان الصفات حديث عنه وأنت إن وُصفت بصفة فتشبهاً به. فالكمال له من حيث الكيان ومن حيث الصفات وكل حديث عن اكتمال روحي في الإنسان مجرد تشبّه بالكمال الإلهي.

Transcendence-and-equalityفالله يبقى دائماً متعالياً لا يسوغ الدنو منه، لكن المسيحية كلها حديث عن الالتصاق به، ذلك الذي يستحيل تحققه في العقل بسبب البعد الأساسي بين كيانك وكيانه ولا يفهم إلا بالحبّ. لا يمكن أن تفهم بالعقل أنك تكون في حضن الله وجوهرك غير جوهره ولكن المحبة تفهم كل شيء. كيف تصل إليه وهو في دوام التعالي؟ في ظل التعالي ما معنى الاتحاد؟ واضح أنك في العقل لا تتصوّر شيئاً من هذا. المسيحية ما أعطت جواباً عقلياً عن هذا السؤال. قالت فقط: “والكلمة صار بشراً وعاش بيننا فرأينا مجده” (يوحنا 1: 14). بتعبير آخر لم تفسر المسيحية سر الله. قالت فقط إن الله جاء إلينا بابنه في جسد فأحبنا واقتبلنا محبته. كل العلاقة بيننا وبينه هي على مستوى الحب. التصادم المنطقي بين تعالي الله وتساويه بنا نتجاوزه فقط في الحب. هذا معنى قوله: “الله محبة”. فيه تحل الصدامات العقلية لأنه هو الرؤية.
من أهم ما قالت به المسيحية عن الله إنه تنازل. هو يتنازل بالحب ولا يخسر شيئاً من سموه. هو تالياً فوق وتحت. إن جعلته فوق فقط تكون قطعت صلته بالبشر. إن جعلته تحت فقط أبطلت ألوهيته. هو وحده الجامع بين الفوق والتحت. التناقض بين التعالي والتساوي حلّه ربك في سرّ المحبة. كيف يساويك ويبقى أعلى منك هذا سره. أنت إن أحببت وأنت على الأرض تبقى فوق في محبتك. المحبة هي موضع اللقاء بين التعالي والتساوي.
الله كله في جسد المسيح وإن كان لا يمتد لأنه ليس في المدى. هو في كل مكان بمعنى حلوله ولكن ليس بمعنى امتداده. “الله روح” ولا يمتد. لا يمس الشيء مسّاً ولا يلمس لمساً ولكنه بروحه يحتضن. صح القول إن الله في كل مكان. هي تعني أنه ليس في مكان ولا يحدّه مكان. الله غير داخل في نظام المكانية.
الله فينا في الحب وليس في انصهار كياننا وكيانه. الله لا تدنو أنت منه بكيانك. هو يدنيك إليه بحبه ويبقى متعالياً. ماذا يعني المسيح فيّ ولا يصير إياي بالكيان ولو اتحدنا بالمحبة؟ هذا يفهمه الذين وصلوا إلى محبة الله. يعرفون وحدتهم بالخالق الفادي ويعرفون الفارق. ما يعني الفارق في الوحدة؟ أنت تفهم هذا بحبك للإله فقط. تعرف أنك بعيد وتعرف أنك قريب. قلبك يفهم الاثنين معاً. الله فوقك وفي داخلك في آن والرب وحده يلقّنك ذلك.
مشكلتنا مع الفهم الروحي أنه لا يشبه الفهم المنطقي. فيه منطق خاص لا يخلو من عقل ولكن ليس عقلاً كله. الفهم الروحي يفترض اهتداء قلبك إلى الله أي يشترط توبتك لأنه يضم إليه كل ملكات وجودك الداخلي. الفهم الروحي يشترط تآزر كل قواك الداخلية من عقلية وروحية والتزام كل وجدانك. الإنسان كله وليس العقل وحده هو الذي يؤمن. عندما تقول: أؤمن بإله واحد تعني أنك تأتي إليه بكل طاقات وجودك وليس بالذهن البحت وحده. لذلك لا يبتّ خلاف في الأمر الروحي والوجداني فقط بالمناظرة العقلية. أنت ملتزم بكل انسانيتك وتواجه الآخر بكل انسانيته. المسائل الدينية لا تحل فقط بالمواجهات الذهنية. الذهن فقط طاقة واحدة لاقتبال الإيمان. هناك في الإنسان الداخلي غير الذهن وحده.
الإيمان عملية إنسانية كاملة تجمع العقل والنعمة التي فوق العقل وإرادتك الخير أي انه موقف يأتي منك ومن انعطاف الله عليك. إذا قلت “أؤمن بإله واحد” أنت لا تعني أنك تقوم بعملية عقلية بحتة. أنت قائل إن إنسانيتك كلها مشدودة إلى الله وقائمة فيه. الإيمان إذاً عملان، عمل الله في الإنسان وقبول الإنسان لله.
بالإيمان إذاً لا تعود بمحض قواك إلى الله ولكنه هو أيضاً يعود إليك بنفسه. عندنا في الإيمان حركتان حركة النفس إلى الله بكل طاقاتها وحركة الله إلى ذاته.
ليس من عمل إيماني يقوم به الإنسان بلا عون إلهي. الإنسان لا يأتي إلى الله إلا بقوة الله. التوبة حركة إلهية في النفس البشرية أولاً.

جريدة النهار

29 تشرين الثاني 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share