إمّا التوبة وإمّا الجحيم – الأرشمندريت توما (بيطار)
ليست المأساة أن تخطئ، كلّنا يخطئ، المأساة ألاّ تتوب!.
روى لنا، مرّة، الدّكتور جورج بابازاخوس، طبيب القلب الّذي كان يعاين القدّيس برفيريوس الرّائيّ، أنّ القدّيس، برفقة أخته، استقلّ، ذات مرّة، سيّارة أجرة. في الطّريق، قال للسّائق: خير لك أن تتوب طالما الفرصة سانحة أمامك، لأنّه ليس أسوأ من أن يموت الإنسان بلا توبة!. للحال، صرخ السّائق، كما بلا وعي، بالقدّيس برفيريوس: مَن أنت يا هذا حتّى توجّه إليّ كلامًا كهذا كأنّي مجرم؟!. هذه وقاحة!.
للحال، أوقف سيّارته بجانب الطّريق، وأخذ يسبّ ويلعن، ويأمر رجل الله بأن يخرج فورًا من سيّارته!.
فتح السّائق الباب، وهو في هياج، وأخذ يصيح: اخرج، اخرج، من سيّارتي!. إستقلَّ سيّارة غير سيّارتي، لأنّي لست أقبل أن آخذك إلى أيّ مكان!.
خرج القدّيس برفيريوس بهدوء، وهمس في أذن السّائق ببضع كلمات: أَما تعرف هذا المكان؟!. خرس الرّجل كأنّ صاعقة نزلت به!. إذ ذاك وضع قدّيسنا يده عليه واقتاده صاغرًا باتّجاه شجرة في المكان!. هناك، تحت الشّجرة، جلس وإيّاه، وأخذ يحدِّثه لبعض الوقت!. أصغى الرّجل جيِّدًا لما قاله له رجل الله!. ولمّا انتهيا من الكلام، وقفا وتوجّها نحو السّيّارة، وقد بدا كأنّ السّائق غادره الحنق والعنف واستحال حملاً وديعًا، والدّموع في عينيه!.
صعد القدّيس برفيريوس إلى العربة، من جديد، بسكون، وكذلك فعل السّائق!. ثمّ انطلقوا حتّى بلغت السّيّارة، بمَن فيها، الموضع الّذي قصد رجل الله التّوجّه إليه!. هناك ترجّل قدّيسنا وأخته وانطلق السّائق كما إلى لا موضع!.
ماذا جرى؟ ما الّذي أدّى بالسّائق إلى هذا التّحوّل الكبير!.
كان السّائق قد قتل رجلاً، وطمره عند تلك الشّجرة الّتي جلس والقدّيس تحتها. أُجريت التّحقيقات بشأن اختفاء الرّجل القتيل. اتُّهم آخر بقتله. في اليوم الّذي التقى رجل الله السّائق، كانت المحكمة منعقدة. عندما قال الأب برفيريوس للسّائق: خير لك أن تتوب طالما الفرصة سانحة أمامك، تحرّك ضمير هذا الأخير واهتاج ردًّا للتّهمة عن نفسه!. ولمّا همس في أذنه ببضع كلمات، أشار إلى القتيل الّذي طمره هناك بجانب الشّجرة. وإذ وضع يده عليه، كان السّائق في حال ذهول، وانصاع كأنّه في الدّينونة وداخلُه مكشوف بالكامل لربّه!. ولمّا جلسا تحت الشّجرة، كلّمه القدّيس برفيريوس بمحبّة ورفق عظيمَين ودعاه إلى التّوبة والاعتراف بجريمته، لكي لا يضيف إلى القتل الّذي فعله توريطَ إنسان بريء في جريمة لم يقترفها!. وبنعمة الله تحرّك قلب السّائق وهان عليه أن يتوب ويعترف بإثمه ويُمضي فترة في السّجن تكفيرًا عن خطيئته، من أن يُلقَى في جهنّم النّار!. كذلك فهم السّائق أنّ الرّبّ الإله يعطيه عمرًا لتكون له فرصة أن يتوب. وقد كان يمكن له أن يقضي نحبه، وهو في الخطيئة، لولا رحمة الله وطول أناته!.
إثر ذلك، توجّه السّائق إلى مخفر للشّرطة واعترف بالجريمة الّتي ارتكبها فكان أن أُطلق سراح المتّهم البريء، وحُكم على السّائق بخمسة عشر عامًا قضاها في السّجن، ولكن براحة ضمير!. وصار إنسانًا جديدًا!.
عادت إلى ذاكرتي هذه القصّة خلال الأسبوع المنصرم، بعدما مرّ بنا زائر وذكر لديّ، عن أحد معارفه، أنّه تورّط في حياته في أمور شائنة جرّته إلى قتل ثلاثين شخصًا، وأنّهم يَحضرونه، باستمرار، في نومه ويعذّبونه ويضربونه، فيصحو من كوابيسه، والمواضع من جسده الّتي ضربوه عليها تؤلمه بشدّة!. لا يعرف ماذا يفعل!. مسيحيّ بالاسم!. لجأ إلى زائرنا وأقرّ له بما كان يفعل على مدى سنوات!. كان في جحيم يوميّ!. ما العمل؟ قلت له إن لم يعد إلى الكنيسة تائبًا ويعترف بخطاياه ويقدّم كفّارة عنها فويل له!. قال: ولكنّه بعيد عن الكنيسة!. قلت له صلِّ من أجله وسأفعل أنا أيضًا، لعلّ الرّبّ الإله يحرِّك قلبه!.
ليست الخطيئة نزهة، ولا إن نسيها مرتكبُها تنساه!. وطالما لم يتب صاحبها عنها ويعترف بها بقلب موجوع ونفس مستعدّة للتّكفير عمّا اقترفته يداه، مهما كان تأديب الكنيسة له صارمًا، فإنّ الخطيئة ستبقى تنخر فيه، من حيث يعي ولا يعي، كما ينخر السّوس في الخشب!. وإذا ما قضى نَحبَه ولمّا يتب، بصدق ودموع كثيرة ونخس قلب، فدوده لن ينام وسيُلقى في الظّلمة الخارجيّة!. مَن لا يشاء أن يعود إلى صوابه ليُصلح نفسه، لأنّه ضنين بصورته الكذوب عن نفسه بين النّاس، ويتذرّع بأنّ الله رحيم، غبيًّا يكون!. ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟ الحياة هنا معطاة لنا لهدف واحد فقط: أن نعدّ أنفسنا للحياة الأبديّة!. يا غبيّ، هذه الّتي أعددتها لمَن تكون؟!. الله رحيم؟!. بكلّ تأكيد!. لكنّه يرحم التّائبين لا غير المبالين بالتّوبة!. يرحم إذ، بطول أناته، يعطينا أن نصلح أحوالنا!. أمّا إذا تمادينا باللاّمبالاة، واللاّحسّ، والكذب، والاحتيال، والتّبرير الأجوف، والاختباء وراء الكلام الكبير، وتمثيل دور الإنسان البارّ والبريء، والضّحيّة، فإنّ جرحنا يتكلّس بالأكثر، ولا يعود، بمرور الوقت، قابلاً للشّفاء!. بإمكاننا أن نكذب على النّاس، ولكنْ، أنكذب على الله؟!. طالما لا طاقة لنا على ضمان حياتنا ساعة واحدة ههنا، فماذا ترانا ندّخر لأنفسنا؟!. التّوبة لا تقبل التّأخير ولا التّبرير!. كلّما أجّلناها صارت أصعب!. وكلّما بالغنا في الهرب من ضميرنا كلّما مات الحسّ فينا!. في نهاية المطاف، يهوذا الإسخريوطيّ شنق نفسه، فيما كان بإمكانه أن يتوب!. كبرياؤه، بالدّرجة الأولى، هي الّتي منعته عن التّوبة، ومن ثمّ قادته إلى اليأس، فصار خيرًا له أن يواجه العدم والموت من أن يواجه ربّه!. ألم يسمع ما قاله المعلِّم: كلّ خطيئة تُغفر لبني البشر إلاّ التّجديف على الرّوح القدس؟ ليس ما يشير إلى أنّ يهوذا جدّف على روح الله!. إذًا كان بإمكانه أن يتوب لو اتّضع، لو بكى كبطرس، وعاد إلى نفسه كبولس!. منذ أيّام، عيّدنا للقدّيس الأرمنيّ تيريدات الملك!. هذا قتل أكثر من ثلاثين عذراء مسيحيّة، وألقى بالقدّيس غريغوريوس المنير في البئر، ثمّ عاد إلى نفسه وتاب وكفّر وعوّض بأعمال باهرة، إذ به تمّت هداية الشّعب الأرمنيّ برمّته!. الاحتيال الأكبر للشّيطان علينا أنّه يوهمنا، ونحن قابعون في خطايانا، أنّ الله سوف يرحمنا، ما يجعلنا نتبلّد في خطايانا حتّى نموت فيها!. مَن يحبّك يحثّك على التّوبة ولا يحبّك ليُثبِّتك في خطاياك!. هذه ليست محبّة، هذه محاباة، وهذا عمل الشّيطان!.
لا يشاء الرّبّ الإله موت الخاطئ إلى أن يرجع ويحيا!. ليس فرح في السّماء يداني الفرح بخاطئ واحد يتوب!. الله ضنين بكلّ واحد منّا!. تجسّد، أصلاً، ومات، من أجل الخطأة، لا من أجل الصّدّيقين، لأنّه ليس صدّيقون إلاّ بالتّوبة!.
المسيح في الانتظار، والكنيسة معه، حتّى لا يبقى في قبر التّبلّد وتبرير الذّات واليأس خاطئ واحد!. استيقظ أيّها النّائم وقم من بين الأموات ليضيء لك المسيح!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
7 كانون الأول 2014