الرسالة الرعائية الميلادية 2014
2014-12-22
برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى
إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي
“اليوم السماء والأرض قد اتحدتا بولادة المسيح. اليوم الإله على الأرض ظهر والإنسان إلى السموات صعد. اليوم غير المنظور بحسب طبيعته يشاهد بالجسد لأجل الإنسان. لذلك فلنهتف نحوه بالتماجيد صارخين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، الذي أثابنا به حضورك، يا مخلصنا المجد لك”[1].
هذا ما ترنّمه كنيستنا في هذا اليوم المجيد، يوم حضور بارئها بالجسّد، يوم مولد يسوع المسيح. وحضورُه ينضح سلاماً.
وما أحوجنا إلى سلام حضورك أيها المسيح في الأرض التي منها خرجت بشارتك لكل العالم. ما أحوجنا لحضورك يا كنز الرحمة ويا شمس البر.
ما أحوجنا لحضورك في أرض سئمت طبول الحروب وتقطيع الأوصال وخطف الناس. إن الأرض التي اقتبلت رسلك منذ ألفي عام جريحةٌ ونازفةٌ. هي جريحةٌ بما أصاب أهلها من إرهاب وخطفٍ وتكفيرٍ لم يسبق له من مثيل. إلاّ أن هذه الأرض وأناسها الخيرين قد اجتازوا جمّاً من المصاعب المهولة على مرّ التاريخ. وهم اليوم يحملون إلى طفل المغارة كلّ همومهم ويضعون أمام مهده الإلهيّ كلّ حملهم، ويشعلون أمام مزوده الطاهر كلّ مصابيح النفوس. يشعلونها بقوة الرجاء وقوة التلاقي.
عيد الميلاد يحمل بين طياته جانباً من الواجب علينا أن نجسّده في حياتنا.
عيد الميلاد هو بالدرجة الأولى عيد الافتقاد الإلهي، عيد الرحمة والصدقة والإحسان.
هو بالأحرى التجسّد الأجلى للمحبّة وللصدقة وللإحسان الإلهيّ الذي تنازل حتى إلى أقاصي دركات الأرض، ولم يجد له إلاّ مغارة يستظل بها ومزوداً وضيعاً يستلقي عليه.
وكلّ ذلك فعله رحمةً وصدقةً وإحساناً علينا نحن البشر.
فما أحوجنا نحن المسيحيين الأنطاكيين، في ظل الظروف الراهنة التي تمرّ ببلداننا، أن نتعلّم أن نجسّد فعل الرّب هذا، وأن نكون غوثاً حقيقياً مادياً ومعنوياً للجار والقريب والأخ وللوطن الأم.
بهذه المراحم التي نسديها بعضنا لبعض، وللإنسان مهما اختلف طيفه نستدر مراحم ذاك الطفل الإلهي الذي لن نقدر أبداً أن نجاري ينابيع رحمته وإحساناته علينا؛ يقول المغبوط أوغسطينوس:
“الصدقة” تعني في اليونانية “الرحمة”. وأي رحمةٍ تجاه التعساء أعظم من تلك التي أنزلت من السماء خالق السماء وسربلت منشئ الأرض جسداً ترابياً، وجعلت من المساوي للآب أبدياً مساوياً لنا في حالنا المائتة، وفرضت على رّب الكون صورة الخادم (فيل 2: 7)؟
أيُّها رحمةً أعظم من أن الخالق يولد والسيّد يمسي خادماً والفادي يباع والرافع يُحطّ والمنهض يُقتل؟
إن كلّ ذلك حدث حتى يغتذي جوعنا ويروى جفافنا ويتعزّى ضعفنا ويمحى اثمنا ويضاء قنديل محبتّنا”.
ومن هنا إن قنديل محبّتنا للآخر هو الذي يديم الرأفات الإلهيّة على جبلتنا.
الكنيسة مدعوة في هذا اليوم أن تتعلّم “السجود لشمس البر والعدل”، أيّ المسيح.
وهي تسجد له عندما تكون على قدر استطاعتها إلى جانب المحتاج والفقير، إلى جانب المنكوب والمصاب.
هي تسجد له عندما تكون وفي كلّ بقاع أوطانها كلمة حق في وجه كلّ من يخرّب أسس عيش واحد.
هي تسجد له عندما لا تهاب قول الحق في وجه لغة المصالح.
هي تسجد له عندما تقر أن قطرة دم إنسان واحد تراق تزن كلّ براميل النفط والمصالح.
يبدو أن العالم لم يستفق من كبوته تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط وفي سوريا بالتحديد.
يبدو أنه لم يسمع ولا يريد أن يسمع غصّات الحزانى.
يبدو أن من أنيطت به لغة القرار قد اكتفى بلغة البيانات ولم يشأ أن يرى آثار الإرهاب والتكفير والخطف وتدمير أوابد التاريخ، وتقطيع أوصال البلد الواحد.
يبدو أن العالم يتعامى عن ارتدادات الأزمة في سوريا على دول الجوار، وأن أصوات الأنطاكيين لم تصله بوجوب الضغط لإطلاق مطرانينا المخطوفين يوحنا وبولس، مطراني حلب.
إلا أن كلّ هذا لا يخيفنا لأننا توأم هذه الأرض وفيها مغروسون وباقون. وصعابنا كلّها نرميها أمام مزود محبّة يسوع الذي اختار أرض المشرق لتكون سفيرة محبته إلى كلّ العالم.
أيها الطفل الإلهي الذي مشحنا بنوره منذ ألفي عام، كن مع بلادنا المصلوبة والقائمة لامحالة.
كن يا رّب مع سوريا ومع العين الساهرة على حدودها وأهّلها أن تستعيد الأمان الذي عرفناه فيها.
كن مع المهجّر والمخطوف.
احفظ لبنان آمناً مستقراً وادرأ عنه شبح الفتنة والفراغ الدستوري.
كن مع العراق الجريح ومع كلّ بقعة من هذا المشرق.
كن يا رّب مع الأم الثكلى ومع الطفولة البريئة التي استهدفت مدارسها.
كن كما كنت دوماً مع المخطوفين والمهجرين وعز قلوبنا برؤيتهم فيما بيننا.