شهادةً لذاك الغريب! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday December 29, 2014 109

شهادةً لذاك الغريب! – الأرشمندريت توما (بيطار)

   لا يمكنك أن تشهد للحقّ الإلهيّ ما لم تكن حرّ الضّمير!.

   إذا كان لنا أن نتكلّم على الشّهادة للحقّ لقلنا: قوامُها الأمانة للرّبّ يسوع المسيح، بالفكر والقول والعمل!. والأمانة لا تكون منقوصة!. لذا نتكلّم على أمانة الإنسان، من منطلق استقامته!. أمّا الاستقامة فتكون بالفكر النّابع من القلب، أوّلاً، ومن ثمّ معبَّرًا عنها بالقول والعمل!. أقول: فكرًا نابعًا من القلب، وأعني نقيًّا، يأتي من محبّتنا لله، وتاليًا من النّيّة الصّالحة المتمحورة في القلب، لا من مجرّد إدراك دماغيّ بحت!. لأنّه ولو كان عملُ الدّماغ بديهيًّا فينا، لأنّنا بشر، لكنّه مسيَّر بقوّة الدّفع والاتّجاه المحدّد في الكيان!.

Christ-Orthodox-Icon-Window   أمّا الحرّيّة، إن تكلّمتَ عليها، في السّياق عينه، فلا يفقه الأكثرون ما تعني!. عندك، في شأنها، معان شتّى يتداولونها؛ وما تقصده ليس بشائعٍ!. لسنا نقصد بـ”الحرّيّة”، هنا، “حرّيّة الخيار”، فكريًّا أو سلوكيًّا، سياسيًّا أو إعلاميًّا، ثقافيًّا أو فنِّيًّا… كلّ هذا، في الحرّيّة، وما شاكله، مشروط بالمناخات الّتي تنشأ أنت فيها، أو تطرأ عليك!. في كلّ حال، أنّى تكن ظروفك، فخياراتك مزاجيّة الطّابع!. وشتّان ما بين ما للمزاج، كائنًا ما يكون مجالُه، وما للحرّيّة الحقّ!. هذا يجعل الحرّيّة، كما تُتعاطى، في عالمنا، كبديهة، لا تتعدّى كونها تعبيرًا عن عشق الإنسان لنفسه، أو، قل، على نحو أدقّ، عن عبوديّة الإنسان لذاته، في تعامله وسواه، فرادًى وجماعات!. لا كما تشاء أنت، بل كما أشاء أنا!. لا ما أنتم عليه، بل ما نحن عليه!. هذا لسان حال الكثرة، الظّانّةِ نفسَها مقيمةً في الحرّيّة، والحرّيّات، في هذا الدّهر!.

   مستحيل عليك أن تسلك في الاستقامة ومن ثمّ في الأمانة، ومن ثمّ في الشّهادة للحقّ، ما دمتَ تروم تحقيق مكسب هنا، أو بلوغَ منصب هناك، أو نيلَ امتياز هنالك!. ولا تكون حرّ الضّمير إذا ما طلبت، لنفسك، مجدًا، أو سعيت إلى رفعة، أو اهتممت بأن تكون لك كلمة مسموعة بين النّاس، أو لدى الرّؤساء!. ما تشتهيه نفسُك، والحال هذه، يتحكّم بموقفك!. فإن تطلب ما لنفسك تكنْ وصوليًّا، مهما بدوتَ حرًّا وغيريًّا!. تتكلّف الحريّة والغيريّة!. تجدك مائلاً، بالوضع، إلى التّمويه، إلى التّظاهر بما لست عليه، لأن ترائي، لأن تمثِّل!. تتذاكى لتصوغ مواقفك بأسلوب مُقْنِع، وتلتزم، بين وعيك ولا وعيك، نهجًا مقنَّعًا، تسعى لأن تُضْفي عليه مِسحةَ أصالة!. العِلم والخبرة، في ذلك، يسهِّلان التّخفّي والتّرقّي!. تتصوّر، في ما تطمح إليه، حتّى الإحساس بالصّوابيّة، أن بإمكانك أن تجمع مصلحتك إلى الغَيرة على ما لسواك!. مَن يطلب نفسه فيك، يهمّه، إن كنتَ رئيسًا، في قومك، أن يكون مشيرَك وعشيرَك، حتّى إذا ما أجدتَ، وسُلِّطت الأضواء عليك، يكون له نصيب في وهج “تعظيمك”!. يكون شريكَك في السّلطة بالتّناضح، بمعنى!. أمّا إذا فشلتَ، فلا يتورّع، في أوساطه، عن لومك، وحتّى عن الشّماتة بك!. هكذا يقيم بمنأى عن مسؤوليّة إخفاقك، حتّى لا تلحقه مضرّة!. شريكك في النّجاح، ويغادرك في خسرانك!. همّه أن يحقِّق، في كلّ حال، مكسبًا!. كالحرباء يتلوّن!. يمدحك لديك، وفي أوساطك، ويستخفّ بك في سرِّه، وفي أوساطه!. في وجهك صديقُك ومُسارُّك، وفي قرارة نفسه غريبٌ عنك!. يهمّه، أبدًا، أن تكون مقتنعًا بأنّه لا غنى لك عنه!. سعيُه الدّؤوب، أن يصرف عنك، باللّباقة والحجّة، مَن يحتفّون بك، إليه، أمناء أو غير أمناء، لتخلو له ساحة تسييرك وحده، ويظفر بمناه بلا منازع!. مستعدّ، أبدًا، في عمقه، أن يستعيض عنك بسواك، متى حانت السّاعة!. في ذاتك، له، أنت نكرة!. أداة!. مرحلة!. همُّه كيف يستمرّ هو!. بغيتُه ذاتُه فيك… وفي غيرك!. أجير في روحه، متسيِّد في تشوّفه!. مات الملك، عاش الملك!. الوصوليّ خبير مكيجة، بلا وجه!.

   كلُّ وصوليّ عبدٌ، وأكثرنا وصوليّ، لذا حرّيّتنا زيف!. ما دمتَ تطلب ما لنفسك، حتّى في أبسط الأمور، فلست حرًّا!. إذا رُمنا الحرّيّة الحقّ فلا طموحات لنا نلتمسها في هذا الدّهر!. هذا لا يعني أنّ الحرّ، في الحقّ، عدميّ النّزعة!. بل الحرّ إنسان عبور، لا يخلِّد العابرات!. رجل بداوة يعبر صحراء العمر بأقلّ القوت والكسوة!. يروض نفسه، أبدًا، على ألاّ يعلق قلبُه بشيء وعلى ألاّ يدّخر الفانيات!. يستعمل ما للحاجة استعمالاً، ويكتفي!. سيّان عنده أن يكون له أو أن لا يكون!. يعمل كأنّه لا يعمل!. يقتني كأنّ لا شيء له!. ما عنده له ولكلّ محتاج إليه!. لا همّه في أن يأخذ بلا حدود، ولا في أن يعطي بتقتير!. بدّد وأعطى المساكين فبرّه يدوم إلى الأبد!. لا يخشى العوز لأنّه يؤمن بأنّ مَن يقيت العصافير هو يقيته!. الرّبح عنده كالخسارة والنّجاح كالفشل، كلّه وضعيّ باطل!. يقبل هذا ويقبل ذاك!. يكفيه أن يعمل ما في وسعه!. لا مانع لديه أن يوجد مكشوفًا لفقر أو لخطر!. عينه على ما هناك!. هنا، لا همّ له!. لذا يحبّ ولا يحابي!. يحمل ولا يتحامل!. يحبّ لأنّ الإنسان قلبٌ، مولودُ حبّ!. يعلم أنّ خياره هو بين أن يُحبب نفسه فوق سواه وأن يُحبب سواه كنفسه!. فإن عشق نفسه فقد إنسانيّته!. عشق الذّات، في فهمه، هو الخطيئة، وفقدان الإنسانيّة هو الموت!. لذا موت الجسد، عنده، ناتجُ ضياع الإنسانيّة، ومن ثمّ ناتج عشق الذّات!. أمّا الحياة ففي الحبّ كمونها!. لذا الحبّ أقوى من الموت!. الحبّ جذر الحياة الأبديّة!. وهو حياة أبديّة لأنّه يماثلك بربّك!. فالله محبّة وهو الحياة!.

   متى تحرّرتَ من ذاتيّتك لا يعود ثمّة ما يفصل بينك وبين ربّك، بينك وبين الآخرين، بينك وبين العالم!. لا تعود هناك غرضيّة تُفسد علاقتك!. وهذا لأنّ علاقاتك بالكلّ، إذ ذاك، تتفعّل، كعلاقات حبّ، بالرّوح والحقّ!.

   لكي تشهد لمعلِّمك، إذًا، عليك أن تتحرّر من عبوديّتك لذاتك!. وأن تُفرغ ذاتك كمعلّمك!. لم يكن لمعلِّمك مكان يسند إليه رأسه!. هذا لأنّه كان مسافرًا في الأرض!. من هناك ورد وإلى هناك صعد!. هو طريقك!. أنت تسير في إثره!. تعلَّموا منّي!. هكذا عبّر الرّسول المصطفى: ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية!. نطلبها في كلّ حين!. نطلبها في كلّ حال!. نطلبها في كلّ شيء!. في كلّ فكر، في كلّ قول، في كلّ فعل!. وكذا قوله: إن كان لنا قوت وكسوة فلنكتفِ بهما!. ومن ذا قوله: محبّة المال أصل لكلّ الشّرور (1 تيمو 6: 10)!.

   وإذ تتحرّر يتسنّى لك أن تنعم بالحرّيّة!. هي الحرّيّة تتيح لك أن تحبّ!. ومتى أحببتَ أحببتَ اللهَ، أوّلاً، وبه الخلْق!. وحبُّك إيّاه تتعاطاه من كلّ القلب ومن كلّ القدرة!. وإذ تتعاطاه تقيم في الله، في الحقّ، لأنّه هو الحقّ!. لذا تحبّه في الحقّ، كما قال الحبيب يوحنّا!. من هناك تمسي قابلاَ، تمسي قادرًا، على أن تشهد للحقّ لأنّك عرفت الحقّ، لأنّك عاينتَه!. فإنّ الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبديّة!. لا يسعك، إذًا، أن تشهد للكلمة، وأن تكون أيقونة للكلمة، إلاّ إذا كنتَ فقيرًا للكلمة، ترتضي أن تستغني، عن كلّ شيء، في دنياك، به، وأن تكفر بنفسك، إليه!.

   إنّما الكنيسة كنيسة شهود شهداء أحرار يحبّون!. من أفواههم تؤخذ الكلمة، ومن عيونهم النّور، ومن نبض أرواحهم الحقّ، ومن حضورهم الحبّ!. هؤلاء هم الّذين سُرَّ الرّبّ الإله بأن يسكب روحه فيهم!. فمَن عاينهم عاين مسيحهم فيهم، ومَن عاين مسيحهم فيهم عاين الآب!. هؤلاء، أبدًا، هم ذرّيّة الّذين إلى كلّ الأرض خرج صوتهم، وإلى أقاصي المسكونة كلامهم!. من دونهم، لا شيء يبقى!. من دونهم، تتراوح المسيحيّة بين أنشودة: المجد لله في العلى… وهوشعنا في الأعالي… فيما يترنّح المسيحيّون، سكارى، بأنفسهم، بين مذود فارغ وقبر فارغ، ولا يبالون!. فقط، الأطلال تعنيهم!.

   أعطني هذا الغريب!. المسيحيّة هي المسيح أو لا تكون!. أحبَّ الغربةَ حتّى لا يبقى الغريبُ لديك، غريبًا عنك!. هذا ميلاده فيك… في غربتك… إليه!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
28 كانون الأول 2014

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share