السّاعةُ بِمِئةِ عام
يُحكى أنَّ راهبًا كان يقول لِكُلِّ مَن يقابله، وبفرحٍ زائد: “الساعة مع ربِّنا بمئة عام”. وعندما كان يُسألُ عمّا يقصدُە بهذا الكلام، كان يقول: عندما أقفُ للصّلاةِ لِساعاتٍ طويلة، لا أَشعُرُ بِطُولِ الوقت، بَلْ يَمُرُّ كَلَمْحِ البَصَر؛ إذًا، لَو أرَدْتُ أن أَقْضِيَ مع رَبِّي ساعةً كاملةً يَنبغي لِي أن أَقْضِيَ مئةَ سنة.
ومرَّتِ الأيّامُ والسّنون بهذا الراهب وهو يُرَدِّدُ هذا القولَ بقناعةٍ تامّة. وَذاتَ يومٍ خرج من الدير لِيَتلُوَ مزامير الغروب فى الصحراء بجوار أسوار الدير كعادَتِهِ كُلَّ يوم، فرأى حمامةً ناصعةَ البَياض بَهِيّةَ الجمالِ تقفُ أمامه، وكُلَّما حاولَ الاقترابَ منها ابتعدَتْ، فتَبِعَها حتّى استَدْرَجَتْهُ إلى مغارةٍ مَلْأى بِالحَمائِمِ الّتي تُنشِدُ التَّسابيحَ لِلخالِق، فَانتَعَشَتْ رُوحُهُ، وأخذ يتلُو مزاميرهُ وسط هذا الجوّ الملائكيّ الرّائعِ الذي هو مِن خارجِ هذا العالَم. وفيما هو مأخوذٌ بهذا الجوّ، نظر إلى السّاعة الّتي في يَده، فانتبهَ إلى أنّه قضى ساعةً كاملةً مِنَ الوَقتِ خارجَ الدّير، وَخَشِيَ أن يُسَبِّبَ قَلَقًا لإخوَتِهِ الرُّهبان. فخرج من الكهفِ مُسرعاً وهو آسفٌ لِاضطراره إلى تَرْكِ هذه المناظر السماويّة والرُّجوعِ إلى مكانه.
وصل إلى الدير لاهثاً، ففوجئ بِجُدران الدّيرِ وقد شَحُبَ لَونُها بعضَ الشيء. قرعَ جرسَ الباب، ففتحَ لَهُ راهبٌ غريبٌ يقول له: كيف يمكنني أن أُساعِدَك؟ فتعجَّبَ الراهبُ جِدّاً وقال له: ألَيسَ هذا هو دير القديس فلان؟ فأجابَ بالإيجاب. فقال له: أنا راهبٌ في هذا الدير، فمَن أنتَ يا تُرى؟!! فتعجّبَ الرّاهبُ البَوّابُ مِن سُؤالِه وقالَ لَهُ: أنا أبٌ مِن آباء هذا الدير، ويُفتَرَضُ بِـي أنْ أسألَك مَن أنت؟! فقال: أنا الأبُ فلان، وأنا لا أعرفُكَ، فكيف تَرَهْبَنْتَ هُنا وأنا لا أَعرِفُكَ؟
أحسَّ الأب البوابُ أنّ في الأمر رِيبةً، فأخَذه إلى رئيس الدير وأخبَرهُ بأمره. فسأله رئيسُ الدير فى هُدوء: يا أبي، مَن أنتَ ومِن أين أتيت؟ أجاب الراهبُ صاحبُ قِصَّتِنا قائلاً: “إنّني الرّاهبُ فلان، وأنا ابنُ هذا الدّير، ولم أخرج خارج أسوار ديري هذا سوى ساعةٍ واحدة، ولا أدري ما حدث في أثنائها!!! ورئيسُ الدّيرِ هو الأبُ فلان لا قُدسُك!!!
أجاب الأب الرئيس وقال له: هذا الأب كان رئيساً للدير بالفعل، ولكن كان هذا منذ ما يَقْرُبُ مِن مئةِ عام. ثُمَّ أتَوا بِمُستَنَداتِ الدّير، فوجدوا اسمَ هذا الراهب. كان موجوداً قبل مئةِ عام، وقد كُتِبَ بِجِوارِ اسمِه: “خرجَ مِنَ الدَّيرِ لِيُصَلِّيَ صلاةَ الغروب ولم يُوجدْ بعدَ ذلك. فَفَهِمَ صاحبُنا ما حدث. إنّها لم تَكُنْ ساعةً تِلك الّتي قَضاها في الصّلاة، وإنّما كانت مئةَ عام. وَفَهِمَ أنَّ الله حقَّقَ لَهُ ما كانَ يتمنّاه. فأخذَ يَحكي للأب الرّئيس وكُلِّ رُهبانِ الدّير قِصَّتَهُ مِن أَوَّلِها، وعندما وصل الى آخِرِها، وجدوا أنّ جِسمَهُ قد أَخَذه العَجْز،
والشّيخُوخةَ ظهرَتْ عليه فجأةً، ثُمَّ باركَ الرّبَّ وتنيَّحَ بِسَلام في دَيره وسطَ الرُّهبانِ الذين تأثَّرُوا جِدّاً بسماع قصّته، وقالوا: بالحقيقة إنّها الآنَ ساعةٌ لِنَستيقظَ مِنَ النوم، فإنّ خلاصَنا الآنَ أَقْرَبُ مِمّا كان حينَ آمَنّا (رو11:13).
نشرة الكرمة
04 كانون الأول 2015