أزمة هويّة في المؤسّسات الإنسانيّة الوقفيّة في الكنيسة – الأرشمندريت توما (بيطار)
أكثر المؤسّسات الإنسانيّة الكنسيّة، اليوم، يطغى عليه الطّابع التّجاريّ. وأقصد بالتّجارة، هنا، تقديم الخدمات الإنسانيّة، المعروفة، تقليدًا، بـ”خدمة الموائد”، مقابل بدل ماليّ. هذه، حصرًا، كانت، في الماضي، تطال الفقراء الّذين يعانون كافّة الحاجات، والفقراء وحدهم!.
لا شكّ أنّ هذه المؤسّسات، من حيث تبعيّتها للأوقاف الكنسيّة، تعاني أزمة هويّة. مؤسّسات دهريّة في الكنيسة!. تملكها الكنيسة، ومع ذلك لا تخدم أغراضًا كنسيّة!. الكنيسة، في المبدأ الصّارم، لا تتعاطى التّجارة!. تراثيًّا، المؤسّسات ذات الطّابع الخدماتيّ الإنسانيّ، في الكنيسة، مرتبطة، عضويًّا، بخدمة المحبّة المجّانيّة، بخدمة الفقير. هذه تعتمد، أساسًا، في تكوينها وخدمتها واستمرارها، على عنصرين أساسيَّين مستمدَدَين، مباشرة، من إيمان عامّة المؤمنين ومحبّتهم لله وبعضِهم للبعض الآخر: تقدمات المؤمنين وإنخراطهم في العمل التّطوعيّ في هذه المؤسّسات. المؤسّسات الكنسيّة الخدماتيّة الرّاهنة، لم تعد تعتمد لا على تقدمات عامّة المؤمنين ولا على عملهم التّطوّعيّ، ولم يعد المؤمنون، بعامة، يشعرون لا بكونها للفقراء ولا بأنّها تعتمد على عطايا المحبّة لتستمر، لذا لا يعتبرون أنفسهم معنيّين بتأمين استمراريّتها. اعتمادها صار، استثماريًّا، على تعاطي تجارة الخدمات الإنسانيّة. كما بات الّذين يخدمون فيها من الفعلة المأجورين. طبعًا، لا زال بعض هذه المؤسّسات يسعى وراء تقدمات النّاس، ولكن لا في إطار العطايا كـ”بَرَكات” يشترك فيها المؤمنون الميسورون مع المؤمنين المعوزين، بل في نطاق ما صار يُعرف بـ “الحملات الماليّة”. تلك تعتمد على غيرة المؤمنين وهذه على قناعات إنسانويّة ودهريّة. “الحملات الماليّة” تطال، بخاصّة، الأغنياء، مؤمنين وغير مؤمنين، من داخل الكنيسة ومن خارجها، وتعتمد على المؤسّسات الّتي لا طابع دينيًّا لها بالضّرورة، وكذا على جمع التّبرّعات وإقامة الحفلات الاجتماعيّة في كنائس الاغتراب ظنًّا من المؤمنين السّذّج هناك أنّهم بذلك يساعدون المحتاجين في مؤسّسات الكنيسة الأمّ!. لكنْ لا تذهب هذه التّقدمات لتعزيز خدمة المحبّة ولا لمساعدة الفقراء المحتاجين إلى خدمات هذه المؤسّسات، هنا، بل لتعزيز المؤسّسات عينها، لإنمائها وتأمين مستقبلها وتوسيعها وتحديثها باعتبارها قائمة بذاتها… هذا لا يمنع، طبعًا، أن تقدِّم هذه المؤسّسات بعض المساعدات، هنا وثمّة، مثلها مثل غيرها من المؤسّسات الأهليّة، ولكنْ بقدر محدود، أو حتّى محدود جدًّا، وتُعطى، بعامّة، لمَن لهم وسطاء لدى المسؤولين عن هذه المؤسّسات، محتاجين أو غير محتاجين!. المحتاجون المعدَمون، بمعنى الكلمة، لا تصلهم إلاّ الفتات الّتي تسقط من موائد أربابها، كأنّهم يستجدون حقّهم!. ونحن نتغنّى بأنّهم أسيادنا، نغسل أقدامهم، كمسيح الرّب، وهم، عمليًّا، السِّقط بيننا!.
عمليًّا، صارت لدينا، في الكنيسة، مؤسّسات مستقلّة عن الكنيسة وروحِها ورؤيتها وشهادتها!. هذه تعمل باسم الكنيسة دون أن تخدم أغراض الكنيسة!. لذلك همُّنا، واقعًا، بإزاء هذه المؤسّسات، بات أن تبقى وتستمر، دون أن نجد سبيلاً إلى جعلها في خدمة الكنيسة كما نشتهي!. السّبب أنّ تركيبتها وإطارها، وحتّى ذهنيّتنا بشأنها لا تسمح بذلك!. طبعًا، بعض مَن في الكنيسة يستفيد من خدمات هذه المؤسّسات لتغذية صندوقه العامّ، لكن رؤيتها ليست كنسيّة بحال!. ولا شركة، بكلّ أسف، على هذا الصّعيد، بين الجماعة الميسورة والجماعة المحتاجة!. كلّ لنفسه إلاّ من باب الصّدقة!.
في واقعها ومنطقها الرّاهنَين، إذا ركّزت هذه المؤسّسات على خدمة الفقير، في هذا النّطاق أو ذاك، انهارت!. فلكي تستمر تحتاج إلى مَن يدفع ثمن الخدمات الّتي تقدّمها!. الفقير ليس بإمكانه أن يدفع!. إذًا، الفقير لا يستفيد من خدماتها!. يبقى متسوِّلاً مهمَّشًا!. هذا يعطِّل الإنجيل!. إذًا ترانا نقول شيئًا ونجدنا مُجبَرين على فعل شيء آخر!. نقول بمحبّة المحتاج ونُعرض، على أرض الواقع، عنه. نتغنّى بخدمة العاجز ولا نقدر أن نخدم غير القادر على الدّفع!. عمليًّا، لا تعود الكنيسة بيت محبّة الله والقريب كالنّفس، بل بيت المرامي الدّهريّة، نظير ما في العالم، وكذا بيت الكلام البليغ على المحبّة!. هذا يجعل المؤسّسات، في وضعها الرّاهن، لا فقط لا تخدم الإنجيل، بل تسيء أيضًا إلى الله وكنيسته وفقرائه!. كم من فقير إلى العِلم والمعرفة، وتاليًا إلى تحصيل الرّزق، توصَد دونه أبواب المؤسّسات التّربويّة الكنسيّة لأنّه عاجز عن الدّفع؟!. وكم من فقير مريض لا يعالَج لأنّه لا مال لديه؟!.
لا شكّ أنّ وجود العديد من المؤسّسات الإنسانيّة في الكنيسة أضحى عبئًا وفخًّا!. لا إذا أَبقيتَ عليها تنتفع، إنجيليًّا، منها، وتشهد، من خلالها، لوجه ربّك، وتجعلها، في واقعها الرّاهن، في خدمة الكنيسة!. كما ولا يمكنك أن تتخلّص منها!. تقوم عليك الدّنيا ولا تقعد!. وبعد ذلك عليك أن تتحمّل وزر التّجديف على اسم الله بسببها!. ثمّ أخيرًا وليس آخرًا، تجد العديدين يفتخرون بأنّ عندهم في الكنيسة مؤسّسات!. قوّة الكنيسة، بالنّسبة إلى هؤلاء، هي، بكلّ أسف، في مؤسّساتها غير الكنسيّة إلاّ بالاسم!.
من جهة أخرى، ثمّة مَن يظنّ أنّ في المؤسّسات الكنسيّة الإنسانيّة تعزيزًا للعِلم والثّقافة والفنّ والخدمات الصّحّيّة وما شاكلها. هذه يعتبرونها شهادة كافية للإنجيل!. ولكنْ ما قيمة العِلم والثّقافة والفنّ والخدمات الصّحّيّة إن لم تكن مؤسّسة على المحبّة؟!. الله محبّة والإنسان محبّة!. هذا هو الإنجيل وهذه شهادتنا!. لا قيمة لشيء في هذه الدّنيا إلاّ إذا كان إيقونة محبّة وثمرة محبّة!. ولا شيء يحدّث عن الإنجيل بأمانة، لا علمٌ ولا ثقافة ولا فنّ، ما دمنا نقدّمه على المحبّة ونُبرزه بمعزل عن المحبّة!.
لا شكّ أنّنا، بإزاء المؤسّسات الإنسانيّة الطّابع، التّابعة للكنيسة، والحال هذه، في مأزق حقيقي!. ولعلّ هذه مشكلة الأوقاف بعامّة. لا إذا احتفظنا بها نستفيد منها، ولا إذا استفدنا منها تذهب الفائدة، إلى المحتاج!. تذهب، في معظم الحالات، إلى بناء المؤسّسات أيضًا وأيضًا وإلى المنافع الشّخصيّة والمجموعات المستفيدة!. حتّى المحتاج، أكثر الأحيان، يغدو نفعيًّا!. الذّهنيّة فسدت!. لا نقدر أن نتخلّص منها ولا نريد، ونفاخر، بأقلّ من القليل الّذي نقدِّم!. كأنّه يكفينا أن تغذّي غرورنا وتنمّي شعورنا بالقوّة!. ربّما إذا جَرَفَنا السّيل نتخلّص ونتحرّر منها!. إذ ذاك، على الرّجاء، تعود النّخوة إلى صدور المؤمنين وروح الشّركة!. قبل استيلاء الشّيوعيّة على رومانية كانت للكنيسة أوقاف هائلة وكانت تطرح مشكلات جمّة. فلمّا وضع الشّيوعيّون أيديهم على معظم ما للكنيسة شعر الكثيرون بالأسى!. أحد الآباء المستنيرين هتف متهلّلاً: “الحمد لله!. هذه نعمة من عنده. الآن صار بإمكاننا أن نسلك بحرّيّة، وأن نبدأ من جديد!. عبءٌ وتخلَّصنا منه!.” يوم تؤخذ الأوقاف منّا، بطريقة أو بأخرى، لسبب أو لآخر، تكون لنا فرصة، إذا اجتهدنا، أن تتحرّك غيرة المؤمنين فينا لنعود ونبني المؤسّسة الحيّة المحبّيّة من جديد!. إذ ذاك، على الرّجاء، يصير بإمكاننا أن نستعيد كنيسة الرّوح القدس السّاكن فينا!. لا شكّ أنّ الأوقاف عطّلت فينا الاتّكال على الله ومحبّة القريب، وفتحت شهيّة المنتفعين بيننا، إلى حدّ بعيد، وجعلتنا مغترّين بأنفسنا، طلاّب قوّة وسلطة ومجد وتبلّد باسم الله، دونما اكتراث بكلّ رحمة، في هذا الدّهر!.
حتّى ذلك الحين، نحن باقون تحت أسر الأوقاف!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
11 كانون الثاني 2015