عندما يتكلَّم العقلاء
إخترت هذا العنوان الذي يتطلَّب جواباً على سؤالٍ متضمَّن. وفعل يتكلَّم هنا لا تعني إلغاء الكلمات والخطب الطنانة الرنانة، ولكن الكلمات ذات المعنى والفحوى المعاش. أي كما كان يتصرَّف سيدنا يسوع المسيح. يعمل أولاً ثمَّ يعلِّم أو يشرح الحادث. يعمل العجيبة ثمَّ يطلب من الإنسان صاحب العلاقة أن يتكلَّم في حال وجد نفعاً من الكلام، وإذا لم تكن المنفعة في الكلام واضحة، كثيراً ما كان يطلب من صاحب العلاقة أن يصمت. وبهذا المعنى يأتي فحوى كلمة العقلاء، أي أصحاب العقل، هؤلاء الذين يتكلمون بمنطق ومنفعة ويعرفون أن يقرأوا بين السطور غير مكتفين بالحروف التي تقتل، أي هؤلاء يُعْمِلون العقل كي لا يوجدوا مستعبدين للسبت أي لناموس القانون والحرف.
ولا يجهل أحد كلام سيدنا يسوع المسيح: “لم يخلق الإنسان لخدمة السبت بل وضع السبت لخدمة الإنسان”. فمن سار على هدي العقل لا الحرف إستطاع أن ينزل الحرف الى قلبه ليكتسب من هناك روحاً وحياةً فيتكلم بكلام المنفعة المقنع المحيي.
أيها الإخوة الأحباء،
في هذه الأيام حطت بي أحصنة الفضاء في الكويت، البلد الخليجي الذي أنبت أهله حضارة من بين الرمال معتمدين على القول الكريم: “إنما جعلناكم قبائل وشعوب لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم”. لقد إستقدموا أشخاصاً من كل الشعوب والأديان بلا تفرقة أو تمييز. المقياس عندهم الامكانيات الموجودة عند الأشخاص وما يقدمونه من خدمات للبلد وللناس فيه، وكأنهم في ذلك يطيعون الله على لسان الرسول يعقوب أخي الرب “فإن كل عطية صالحة وموهبة كاملة هي من لدنِكَ يا أبا الأنوار” وقد أدركوا أن الذي يمطر علىالأخيار والأشرار ويشرق شمسه على الصالحين والظالمين سيوزع المواهب بين الأمم كافة ليبلونَّهم أيهم أحسن عملاً. وبينما بلاد الشرق الأوسط تدمَّرُ حضاراتها وعمرانها بهذه الهجمة الشرسة الحاقدة والتي ضربت الجميع بلا رحمة، لتوغل في المنطقة في نواحي الجهل والطائفية والخصومات والإقتتال والظلامية.
كل الكلمات التي سمعناها إما من الرسميين أو من أبناء الجالية العربية الأرثوذكسية وغيرهم شدَّدت على أن الكويت، بلد يحترم الجميع ويوفر للجميع حريّة العبادة. شدَّدَ على ذلك رئيس مجلس الوزراء السابق في خطابه الموجه الى الوفد الانطاكي برئاسة البطريرك يوحنا العاشر، لقد قرأ كل النصوص بعقل ونور، وبحث عن الخير لا في ميادينه هو فقط بل في ميادين إيمان وتاريخ المسيحيين وتفاعلهم الحضاري في المنطقة، وكذلك كانت كل كلمات القادة الكويتيين، الأمير وولي العهد، والوزراء وغيرهم. وختم رئيس الوزراء الكويتي السابق كلمته بتوجيه التهنئة الى سيادة المتروبوليت غطاس هزيم في مهمته الروحية الجديدة كمتروبوليت الكويت وبغداد وتوابعهما.
وكذلك كانت قراءة البطريرك يوحنا العاشر فأورد في كلماته المحطات التاريخية المنيرة والمتمثلة بروعة التلاقي عبر التاريخ لبناء الحضارة وعيش القيم وقد قوطعت كلمته بالتصفيق عدّة مرات.
كان في الكلمات ودٌّ كبير لأن بين سطور الكتب المقدَّسة ودٌّ كبير.
كان التساؤل الذي أثاره اللقاء في نفسي، لماذا الفرق الهائل بين موقفين؟ موقف العقلاء الذين يقرأون الحرف على أنوار الروح والتواصل. فجعل من الكويت بلداً معترف به عالمياً أنه بلد أعمال الرحمة واللقاء بين الشعوب، والموقف الثاني موقف الذين أثاروا الحروب في منطقتنا لأنهم قرأوا فقط الحرف الذي يقتل ولم يميِّزوا ميادين الرحمة في الكلمات والنصوص ولم يستنبطوا الفكر والعبر إلا بحسب ما أملتهم عليهم أهواؤهم ومصالحهم. فشرَّدت الحروب أهلنا ورمتهم على قارعة الطرق في أقطار الدنيا وذهبت أتعابنا وأتعاب شعوبنا أدراج الرياح. إن هؤلاء يقرأون ذات النصوص التي يقرأها غيرهم من المسلمين في البلاد الناهضة هنا وهناك، وكما كنا في بلادنا.
وكما الإنسان غير الواعي يقتل الناس بتبريرات ذاتية، وأخرى خاطئة غائية. هكذا الإنسان أيضاً، شيئاً فشيئاً يقتل ذاته ومجتمعه، وبكل النوايا الحسنة والطيبة. وصدق في ذلك المثل القائل: “طريق الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة”. والكتاب المقدَّس يؤكد أن الإنسان هو أصل العمران فإن ضعف وجوده ضعف العمران، وإن إزداد وجوده إزداد العمران، حتى وعن إضطرار. وهي رسالة يسلمها الراحل للقادم، ويستلمها القادم الى الحياة من مغادرها. فيصبح قول الله مطاعاً في الأرض: “إذهبوا وانموا وتكاثروا واملأوا الأرض وتسلطوا عليها.
أرجو من الله البركات والنجاح لسيادة المتروبوليت غطاس في أبرشيته الجديدة وأدعو له أن يرسل الله إليه ويسكب عليه نعمته المقويّة والمشدِّدة ليقود رعيته الغيورة والمحبّة الى مراعي الخلاص والأمان والإستقرار والتقدم والإزدهار.
نشرة البشارة
18 كانون الاثني 2015