الصلاة من أجل وحدة المسيحيين
2015-01-23
في جو مفعم بالروح الأخوية، وبدعوة من صاحب الغبطة مار إغناطيوس أفرام الثاني، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، شارك صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر في صلاة أقيمت في كاتدرائية القديس جاورجيوس للسريان الأرثوذكس، من ضمن سلسلة صلوات تقام في أسبوع الوحدة المسيحية. وقد شارك غبطته على رأس وفد من الأساقفة مع لفيف من كهنة أبرشية دمشق، وبحضور السفير البابوي في دمشق ماريو زيناري وممثلين عن كافة الكنائس المسيحية في دمشق وحشد من المؤمنين.
وقد كان لغبطة البطريرك يوحنا العاشر كلمة شدد فيها على أن الوحدة المسيحية “لا تعني انمحاء الواحد بالآخر ولا تعني اقتناص الآخر إلى الحظيرة. الوحدة هي أن نقول كلنا وبفم واحد: “كلنا أخطأنا وأعوزنا مجد الله”… مخطئ من يظن أن الوحدة تقتنى فقط بالحوار البشري، على أهميته. الوحدة المسيحية هي ضرورة وجود، وبرهان مسيحية، قبل أن تكون حصيلة حوارات… تبنى (الوحدة) وتستكمل بمقدار ما يسعى كل منا للاتحاد بالمسيح والانشداد له”. كما تطرق غبطته إلى الأوضاع السائدة في المشرق وخاصة في سوريا، فتابع قائلاً: “آن للعالم أن يستفيق مما يحدث، وينظر بعين الإنسانية، لا بأعين المصالح، إلى كل قطرة دم بريء تراق بشرف وبإخلاص دفاعاً عن وجود وقيم وأوطان اعتادت أن تضم الجميع تحت جناحيها وتقرر مصيرها بذات نفسها”.
بعد ذلك استقبل صاحبا الغبطة المؤمنين الطالبين بركتهما في صالون البطريركية.
كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين
دمشق، كاتدرائية مار جرجس للسريان الأرثوذكس، 23 كانون الثاني 2015
إخوتي وأحبتي،
نحن اليوم على أسوار دمشق نرفع صلاتنا إلى يسوع من أجل الوحدة، وحدة المسيحيين. نرفع صلاتنا إلى من خاطب بولس على الأسوار وتملّك قلبه واكتسح أسوار فكره أن يتملك قلبنا وكياننا وينفح هذه الأرض ويسوّرها بسلامه الحق.
أسوار دمشق التي استضافت بولس هي التي تحتضننا الآن، وأرض أنطاكية التي تشربت اسم يسوع هي التي أنبتتنا وأنبضت في عروقنا إيماناً بيسوع واحداً. في أنطاكية شهدنا أولاً ليسوع المسيح وكنينا باسمه. في أنطاكية رحنا نسعى كي نتخذ “معدن” المسيح فذاب فينا وتأقنمت حياتنا برحيق تعاليمه. قد يكون من اللافت أننا أتباع المسيح كُنينا باسم المسيح. وهذه التسمية هي فخر أمام الحقيقة التي هي أن المسيح الرب هو سيدٌ نتمثله، نلبسه، نتسربله، نسعى لأن نتخلّق بأخلاقه، نتشح باسمه في سعيٍ دؤوبٍ لنتشح بخصاله على قدر ما أعطانا هو من قوة. كل هذا لا يعني أننا، كمسيحيين مشرقيين، نحتكر المسيح لنا، لكننا نعتز ونفخر ونشعر بمقدار اعتزازنا وافتخارنا أن الله أراد منا أن نكون زهرة المسيح الفواحة من هذا المشرق إلى كل الدنيا.
نحن في هذه الأرض، روماً سرياناً وأطيافاً أخرى لا نلقي اللوم على التاريخ ولا نجمل الواقع. لكننا نقر ونرى بالعيان أننا سالكون درب الوحدة. الوحدة لا تعني انمحاء الواحد بالآخر ولا تعني اقتناص الآخر إلى الحظيرة. الوحدة هي أن نقول كلنا وبفمٍ واحد: كلنا أخطأنا وأعوزنا مجد الله (رو3: 23). بإقرارنا هذا نبني لبنةً أولى. نتلقف التراث ونغربله ونضعه في صلاة حارة أمام الرب يسوع. الوحدة المسيحية ليست ايديولوجية وهي أكثر من بروتوكول. هي تتعدى مجرد التعييد في يوم واحد وتتجاوز مسألة الصلاة في طقس واحد، ولا تعرف سبيل الاقتناص. هي مسيرةٌ تعاش وحياة تُنحَت ليكتمل بنيان الكنيسة ونسمو جميعاً، روحاً وجسداً، عقلاً وكينونةً، “إلى مقدار قامة ملء المسيح” (أف4: 13). مخطئ من يظن أن الوحدة تبتنى فقط بالحوار البشري على أهميته. الوحدة المسيحية هي ضرورةُ وجودٍ وبرهانُ مسيحيةٍ قبل أن تكون حصيلة حوارات. الوحدة المسيحية تبنى وتستكمل بمقدار ما يسعى كل منا للاتحاد بالمسيح والانشداد له. أنا أتحد بالآخر المسيحي بمقدار ما أسعى أنا وإياه إلى أن نكون في وحدةٍ مع المسيح وانجذابٍ له لا تنيخه ظروف التاريخ وتذوب أمامه ترهات القشور والسطحيات وتدعمه وتصقله العقيدة الحقّ والإيمان المسلّم من جيل إلى جيل.
تجمعنا اليوم هذه الصلاة المشتركة مع إخوتنا في الكنيسة السريانية ومع كل أطياف الشرق المسيحي. تجمعنا لنقول أننا نتحد صلاةً من أجل هذا المشرق المعذب، من أجل هذه الأوطان المعذبة والتي من رحم عذابها تستشرف الأمل بالقيامة الأكيدة. تجمعنا الصلاة في مواجهة هذا الظلام الكالح الذي لابد له أن ينجلي من ديارنا بقوة الله وبقوة صبرنا واتكالنا عليه. نحن معكم نعيش أخوّة الإيمان وأخوّة العيش أخوّة الضيق وأخّوة الفرج، أخوّة الراعيين المختطفين يوحنا وبولس والمتّحدين صلاةً معنا ومعكم من أجل عودتهما وعودة كل مخطوفٍ ومن أجل السلام المنشود.
قلوبنا اليوم تتقد صلاة من أجل سوريا ومن أجل لبنان ومن أجل كل بقعة في هذا العالم. دماء أبناء هذا المشرق ليست أبخس من دماء أحد. وأناسه ليسوا عملةً في سوق المصالح. نحن هنا لنطلق الصوت عالياً في وجه من تحلل له نفسه أمر العبث في العيش الواحد. كفى تفرجاً وكفى تأجيجاً وتوريداً لأفكار لم تعرفها أرض هذا المشرق. كفى تنظيراً وكفى تحليلاً وكفى ازدراءً بشعوبٍ تتوق إلى عهد أمانها السابق. كفى خطفاً وكفى حصاراً للشعوب تحت حججٍ واهية. كفى إرهاباً وتكفيراً وتهجيراً لأناسٍ سئموا طبول الحروب وتاقوا إلى السلام في أرض السلام. سؤالي اليوم برسم كل المراجع الدولية وكل ذوي القرار وكل ذوي النيات الحسنة: أما آن لمطرانينا أن يرجعا؟ أين حقوق الإنسان مما جرى مع مطراني حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي وكل المخطوفين؟ لماذا ينتفض دعاتها عندما يُخدش أي إنسان في أوروبا ويتجلببون برقع الصمت عندما يتعلق الأمر بإنسانٍ مشرقي؟ ألعل هذه الحقوق كتبت لتحمي البعض ولتمحو آخر في غياهب النسيان؟ أو أن كرامة إنساننا لا تصرف طبقاً لحقوق الإنسان بل في سوق المصالح وفي سوق المتاجرة بالمبادئ السامية؟ أقولها ومن جديد: آن للعالم أن يستفيق مما يحدث وينظر بعين الإنسانية لا بأعين المصالح إلى كل قطرة دمٍ بريءٍ تراق بشرفٍ وبإخلاص دفاعاً عن وجودٍ وقيمٍ وأوطانٍ اعتادت أن تضم الجميع تحت جناحيها وتقرر مصيرها بذات نفسها.
نصلي إليك يا يسوع أن تلحظ هذه الأرض بوافر عنايتك. يا مَشرق الأنوار كن مع هذا المشرق المعذب وداوِ جراحه بجراح صليبك. يا يسوع يا من استقى المر والعلقم رأفةً بالبشر كن مع طينتك البشرية وكف عنها علقم التجارب ومُرّ الأيام. كن يا يسوعاه مع المخطوف والمهجر وامسح دموع الحزانى. كن يا رب معنا لنكون شهود حق إلى كل الدنيا. ادفن بصفائك جموح أفكارنا وسكّن برويتك جمر الغضب. كن لنا منارة تنير سبيلنا إلى الوحدة الحق وأنر أذهاننا وكياننا لنخلع عنا ترهل الأنانية ونلبسك أنت إلهاً ومخلصاً ونوراً يكتسح كياننا ويجلو نفوسنا وسفينة تمخر بنا عباب هذه الفانية. كن لنا وهج محبةٍ ونفحة سلامٍ تقود شراع حياتنا وترسو بقاربنا في ميناء خلاصك. خذ بيميننا لنكون بك واحداً وتكون لنا يمين قوةٍ ويراع محبةٍ تكتب دوماً نشيد الخلاص. كن لنا معدناً يقوي بنيان وحدتنا في مسالك هذه الدنيا فنُقتاد إليك كنيسة لا عيب فيها ولا غضن ولا شيء مثل ذلك. رونا يا يسوع من جدول صلاتك الإلهية وعلمنا جميعاً أن ندعو الله “أبانا”، وأن نكون فيه دوماً وأبداً كما نحن الآن، إخوةً وأكثر من إخوةٍ تجمعهم إليك البتول الطاهرة، الأم الخفرة التي نتمثلها جميعاً ونطلب شفاعتها إلى الله ونخاطبه معها سائلين لكل جِبْلته الحكمة والنور العقلي ونقول:
كن إلهي جالياً… نور عقلي والبصر
حيث أغدو شادياً… بك ما بين البشر