الأرق! – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday January 26, 2015 91

الأرق! – الأرشمندريت توما (بيطار)

   موضوع الإيمان يؤرقني!. نحن، في الإيمان، بصدد عمليّة تسليم. تسليم آت من ثقة، من يقين. لا، لا، القناعة لا علاقة لها بالتّسليم!. في القناعة، أنت تقبض على موضوع قناعتك!. تُخضعه لفكرك، لمعاييرك، لمقاييسك!. في القناعة لا مطرح للتّسليم!. ينتمي التّسليم إلى نطاق آخر!. نطاقه العلاقة!. ولا أيّ علاقة!. علاقة ثقة ويقين، كما قلت. وحده الحبّ، كعلاقة، ينضح بذلك!. يؤكّد ذلك!. تحبّ تثق، وإلاّ يسري الشّكّ في مياهك الجوفيّة!. أمّا اليقين فينتمي إلى الكيان!. اليقين لا يأتيك من إدراك!. يأتي من راحة عميقة في القلب!. والرّاحة من الرّوح!. والرّوح يحدّث عن العلاقة في العمق!. أنا وأنت لقيانا الحقُّ الأصيلُ، على هذا الصّعيد، أو لا نلتقي!. كلّ لقيا انعطافٌ مآلُه الاتّحاد!. اثنان يصيران واحدًا ويبقيان اثنين!. ما هذا السّرّ المعبَّر عنه بالقولة إنّ الإثنين يصيران جسدًا واحدًا؟ إثنان في واحد، وواحد في اثنين، دونما خلطة ولا تشويش؟ هي وحدة الحبّ!. الحبّ الموحِّد، وحافظ الثّنائيّة في آن؛ إذ بلا ثنائيّة يموع الحبّ ويضمحلّ، وبلا اتّحاد يسود الفصل، ويبقى كلٌّ جزيرة!. هو سرّ الحبّ يجمع ولا يفرِّق، ويقارب حتّى وحدة شعاع النّور في القلب، ولا يباعد بعاد الكواكب في الجَلَد!. الإيمان يأتي من هكذا حبّ ويطلقه إليه!. والتّسليم مؤشِّر الرّاحة العميقة الكاملة فيّ إليك!. بلا أدنى تحفّظ!. بلا أدنى شكّ!. بلا اقلّ الخوف!. في سلام يفوق كلّ تدبير البَشَرة ويتخطّى كلّ عقل!.

arak   أؤمن لأنّ الحبّ محرّكي!. هذا مزروع فيّ منذ البدء!. لا أعيه أوّلاً!. وهو، رغم ذلك، دافعي!. الله فيّ إليه!. خرج إبراهيم من أرضه وعشيرته، ظاهرًا إلى لا أرض!. الأرض الّتي شدّ رحاله صوبها كانت فيه!. الكلمة الّتي سمعها هي حكت!. هي أرض الأحياء!. الكلمة صار جسدًا، والجسد آدمَ الجديد، وآدمُ الجديدُ الأرضَ الجديدة الّتي قال ربّك لإبراهيم: “الّتي أُريك”!. وعَدَه بها وأراه إيّاها!. تعالَ وانظر!. رأيناه بعيوننا!. شاهدناه!. الحياة أُظهرت!. رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبديّة!. لكي يكون فرحكم كاملاً!.

   لا خضوع في الإيمان لا للعقل ولا للحسّ ولا للرّغبة!. الإيمان يُدخلك في مَدار لا قِبْل لك به، متى بتّ أسيرًا لذاتك!. هو عطيّة الله!. مجّانًا أُعطيتَه بالنّعمة، أساسًا، ومجّانًا، بالنّعمة تُعطاه، متى تُبْتَ إلى ربّك، كما لتعود إليه، كالابن الشّاطر، من غربة الخطيئة، حتّى أقاصيها!. متى دَعوك إلى مقاربة الإيمان والعِلم شوّشوك!. الحبّ والتّكنولوجيا متباينان جوهريًّا!. حبّ تقرأه تكنولوجيًّا تمسخه!. التّكنولوجيا، ككلّ ما للبشرة، لغةُ حبّ، أو أداةُ موت!. وكذا الحسّ، متى ربطوا به الإيمان، أطاحوه!. الإيمان والحسّ مغتربان أحدهما عن الآخر!. فقط، الحسّ يحكي الإيمان، أو يطّرحه كالجنين المُسقَط!. وإن تحكي الرّغبةَ يموت فيك الإيمان الفاعل بالمحبّة!. مدار الإيمان الخالق والخلق والخليقة، لأنّك بالحبّ كُوِّنتَ!. من العدم!. بلى، من العدم!. نظريّاتك العلميّة نظريّات، تكهّنات، خيالات!. بعض من الإيهام الذّاتيّ!. وإن حسبتَ أنّك بالمقاربة، المعتبرة علميّة، تغوص في بحر الإيمان، على نحو أفضل، تجدك طعمًا للأوهام!. بالعكس، تنفي الإيمان!. الإيمان حكاية قلب، يا إنسان!. كان، ثمّ شرد، ثمّ تاب إلى حبّه الأوّل!. عِلْمُ العالمين، في نطاق السّقوط، سِقْطٌ وعثرةٌ ومَفسَدة!. فقط إن آمنتَ وأحببتَ واستشرفتَ نور الحضرة الإلهيّة، في ذاتك والخلْق، كان علمُ هذا الدّهر تمجيدًا لله، من حيث إنّ السّموات تحدِّث بمجد الله، والفلكُ يخبِّر بأعمال يديه!.

   أريد أن أؤمن ولست أجد!. المغمَّس بأسيد غطرسة الفكر البشريّ لا يَحيا، إن لم يُحْيهِ الصّانعُ كلَّ شيء جديدًا (رؤيا 21)!. لذا كان البابُ الضّيِّق الاتّضاعَ!. مَن أضاع نفسه يجدها!. لكن هذا مستحيل!. كيف أكون ما لست أستطيعه؟!. بالنّعمة!. بالنّعمة أنتم مخلَّصون وذلك ليس منكم!. هي عطيّة الله!. يأتيك من حيث لا تدري!. فقط أَرِدْ ما يريد!. ليكن لي بحسب قولك!. غبيّ أنا ولا معرفة عندي!. على كلمتك أُلقي شبكتي!. هؤلاء كانوا ولا زالوا الشّهداء!. يمشون على المياه، لأنّه هو قال، فكان!. يلقون شباكهم في بحار خاوية فيصيبون سمكًا كثيرًا!. والحال، أصلاً، أنّ الحشا كان فارغًا، ثمّ قال الكلمة؛ وعلى مَن حلّت الكلمة، استقرّت النّعمة!. فقط قالت: ليكن لي بحسب قولك!. فقط، قل الكلمة يا معلِّم، فيبرأ فتاي، روحي، في مرضي، في معاناتي، في ضياعي!. وكان أن قال الكلمةَ لأنّ هذا ما شاءه بالحبّ منذ البدء، فشُفي فتاه!. حَسْبُه الزّمن مدًى يعي فيه الإنسان أنّ الله يحبّه، يريده، يبكي عليه، ينتظره!. ومتى صرخ الإنسان: اللهمّ بادر إلى معونتي، يا ربّ أسرع إلى إغاثتي!. أتاه الجواب للتّو: هأنذا!. ربّك أسرعُ على الجواب، منك على السّؤال، بما لا يقاس!. تحتاج إلى دهر لتأتي إليه فيجيبك في لحظة!. تراه في انتظارك أبدًا، حيث، لا فقط، يشاؤك هو أن تكون، بل، بالأكثر، حيث تشاء أنت أن تذهب، ولا تدري لاختلاط الأمور عليك!. مشيئته إيّاك!.

   عِلْمُك، يا هذا، أن تجعل ذاتك فقيرًا، مكشوفًا عليه، كأنّ لا وجود له، وهو المالئ الكلّ!. تفتقر من أجله، في كلّ حين وحال، فتستغني به!. تتخطّى نفسك، على كلمته، فتجدك بين يديه!. مالئ السّماء والأرض لا فراغ ولا صدفة لديه!. كن إليه، كما في العتمة، يأتِك في انفجار النّور لا محالة!. روّض نفسك عليه، على التّقوى!. تعالوا إليّ يا جميع المتعَبين… فأُريحكم!. لا أيسر من وجدان الله إن قاربتَه طفلاً، ولا أصلد إن تمسّكت بحكمة هذا الدّهر!.

   أتؤمن بابن الإنسان!. قم وامش!. إذا اردتَ تقدر أن تطهِّرني؟ أريد فاطهر!. أتريد أن تُشفى؟ ليس الأمر وقفًا عليّ!. خادمك أنا، قال ربّك!. إنّما أتيتُ لأغسِل قدميك!. الأمر وقف عليك!. أعطيك ذاتي إذا أردت أن تستعيد ذاتك!. هذا مناي!.

   جاؤوا إلى إنسان مرّة!. الجفاف يسحقنا!. أما تُصلّون؟ بلى، بلا منفعة!. مستحيل!. قوموا نصلّي معًا!. رفع ذراعيه!. للحال نزل المطر!.

   لماذا كلّ هذه الصّلوات والطّقوس، ولا يستجيب؟!. أمفترضٌ بنا أن نكون كأنطونيوس الكبير ليسمع أصوات تضرّعنا؟ لا!. لا كثرة الصّلوات هي الجواب، ولا الأسهار والأصوام!. أنطونيوس صار في مقامه، أنطونا، لا لنسكه، بل لأنّه دلف إلى القلب الخاشع المتواضع، والقلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله!.

   أزمة الإيمان خانقة!!. كأنّه غير موجود!. قليلُ ورع، قليلُ وداد، قليلُ اتّضاع، قليلُ ثبات!. صرخةٌ من الأعماق!. فيأتيك ربّك عَدْوًا!. لستَ بحاجة إلى شيء إضافي!. كلّ شيء يعطى لك بوفرة!. يكفيك الملكوت، هو، أن تشلح نفسك بين يديه، كأرعن لله، كمجنون للكلمة!. تنتظر القطارَ فيأتيك!. أوثقتم بي، مرّة، وخيَّبتُكم؟!. لمرضاكم شفيتُ، لبرصكم طهّرت، لعميانكم رددت النّورَ، لأمواتكم أقمتُ!!. ما بالكم لا تكفّون عن الصّراخ إليّ، وأذناي إلى نأمة قلوبكم؟!. مزّقوا قلوبكم لا أثوابكم، رنّموا بأفئدتكم لا بألسنتكم!. توبوا إليّ أتُب عليكم!. ماذا اشتهت كياناتكم وما أعطيتكم؟!. أيّها الجيل الفاسق غير المؤمن، حتّى متى أكون معكم؟!.

   هوذا زمن عدم الإيمان حلّ بقوّة!. هذا الشّعب يعبدني، بشفتيه، أمّا قلبه فمبتعد عنّي بعيدًا!. انظروا حواليكم!. أترون إيمانًا ولا أبارك؟!. ها ابن الإنسان يأتي!. أيجد إيمانًا، بعد، على الأرض؟!. ولكن، ولو تركتموني لست أترككم!. أتنسى الدّجاجة فراخها!. ها أنا آتيكم، رغم كلّ شيء، غريبًا أبدًا، لأنزع غربتكم، لأقرّبكم، لأنّكم من روحي بَرَأتُكم!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
25 كانون الثاني 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share