الحداثة وحريّة العبيد!- الأرشمندريت توما (بيطار)
للتّجربة جاذبيّتها. النّفس، بالسّقوط، مائلة إليها، تلقاءً. بذورها، في نزعات أهوائيّة، غائرةٌ في أعماق اللّحم والدّم والأعصاب والأمخاخ. فكيف إذا كان عالمك مؤاتيًا حاضنًا لكلّ تجربة، يتعاطاها كمعطًى طبيعيّ؟!.
في الماضي، ليس البعيد، ما لا زال في ذاكرة العديدين، الأحياء، اليوم، كانت الفضائل، بعامّة، ركائز بيئة الإنسان، يَنشأ عليها ويرتشفها مع الحليب!. لم يكن له فضل في اقتنائها!. كالهواء اعتاد أن يستنشقها!. ما كان يتعب فيها إلاّ بقدْر ما يتعب المرء في تحصيل البديهيّات!.
الأحوال، اليوم، تغيَّرت. الكثير ممّا كان يُعدّ، بالأمس، رذيلة، لا فقط بات مقبولاً، مطبّعًا، صار يُعتبر، بالأحرى، فضيلة، أمرًا بديهيًّا، من علائم، لا بل من ضرورات، ما يُعرف بـ”الصّحّة النّفسيّة”!. ما جعل العكس يُعتبر شذوذًا، حالاً مَرَضيّة، أمرًا مذمومًا، أصوليّة متحجِّرة!.
السلَّم التّراثيّ للفضائل تآكل، إلى حدّ بعيد!. القيم تتبدّل!. الخسّة والقحة والزّور والزّيف والعهر يحلّ محلّها!. الشّيم باتت مادّة فولكلوريّة، والشّعور بالعيب عائبًا!. الكذب صار، في الأفهام، من العاديّات، لا بل من ضرورات النّجاح؛ والسّرقة، ومشتقّاتها، في التّعامل، من البديهيّات، لا بل من التّدبير الحسن؛ والخلاعة من المشيَّعات، لا بل من تعابير الحداثة والحرّيّات!. الأمانة تندر وتصير من علامات الضّعف والسّذاجة، والاستقامة تُغيَّب وتصير مادّة للاستغلال وعنوانًا للغباء، والكرامة تُعتبر من البائدات!. هذا ونظيره، ما أضحت الأجيال تُنَشَّأ عليه!.
إذا ما فَسُدَت الجماعة، شاع الفساد في المقيمين في حضنها كأمر عاديّ!. لا فقط قلّت الفضائل المعيشة في كنفها، بل أضحى اقتناؤها مستبعَدًا، مستهجنًا، شاقًا، شبهَ متعذَّر، أيضًا. لِمَ يطلب القيمَ الرّوحيّة مَن فَسُد وجدانه وخبا ضميرُه وضمَر إحساسُه وبات مبرَّرًا في عين نفسه، في مسرى شروده، من حيث بات الأكثرون، في عشيرته، قدواتُه، يفكّرون كما يفكِّر وينهجون كما ينهج، ويرضون بما يرضى؟ الوجدان، في تكوينه، جماعيّ، إلاّ النّدرة تتمرّد، وفقط في نطاق محدود، على منحًى أو فكر أو اتّجاه!. أنّى يكن الأمر، فأكثر الشّخصيّة، في روحها وعاداتها، شركويّة الطّابع!. الصّور في ذهن الإنسان نتاج مجتمعيّ تتداخل واهتزازات شتّى رسخت في أعصابه، من حصاد الأجيال، وذويه المباشرين، واختلطت بأهواء نفسه، وتشكّلت بأشكال قدراته، على نحو مركّب معقّد!.
أين حرّيّة الإنسان في مثل هكذا مناخ؟ الحرّيّة، كما تُتعاطى، هي، بالأكثر، حرّيّة اختيار نمط أو أنماط من المفاسد الّتي توافق أمزجة النّاس!. تبقى الشّراهة شراهة ولو اختار الواقعُ فيها الكافيار أو الصّومون أو أيّ نوع آخر من ثمار البحر الفاخرة!. هذه حرّيّة في الشّراهة!. ولكن، لا حرّيّة في الخطيئة!. بل مَن يصنع الخطيئة يصير عبدًا للخطيئة!. أين تجد الحرّيّة الحقّ، والحال هذه؟ أما يعود لها وجود؟ عند أكثر النّاس، بكلّ أسف، لا حرّيّة موجودة بعد!. فقط وَهْم حرّيّة!. اسم على غير مسمّى!. في المناخ السّائد، لا يَتعاطى أحدٌ الحرّيّة الحقّ بيسر، تلقاءً!. الإنسان المعاصر، في الواقع الرّاهن، بات، بالأحرى، راتعًا في العبوديّة!. مستعبَدًا لأهوائه ومفاسد مجتمعه!. وحيث لا طاقة لعبد أن يحرِّر أحدًا، فإنّ النّاس، باسم الحرّيّات، يستعبد أحدهم الآخر!. دونك الحرّيّة السّياسيّة مثلاً. ماذا تراها تكون في عمقها؟ الحرّيّة السّياسيّة إن هي سوى استعباد الأقوى للأضعف، في إطار حكم الشّعارات، الّتي أكثرها جوفاء!. النّظم المسمّاة “ديمقراطيّة” أو “ديكتاتوريّة”، بأشكالها المختلفة، لا تتعدّى كونها أنماطًا من العبوديّة الممكيجة!. وأمّا الشّعارات، بعامّة، فمعميّات ملوّنة بألوان نزعات البشر ورغباتهم وحاجاتهم، على نحو تخديريّ!. وما الحرّيّات الإعلاميّة؟ ليست، عامّةً، بأكثر من سيطرة أصحاب الإعلام على اتّجاهات النّاس، وصناعة ما يُزعَم أنّه “الرّأي العام”!. هنا يُنشَّأ الإنسان الببغاء والجماعة القطيع بامتياز!. وما الاقتصاد الحرّ؟ هو، في عمقه، صناعة الإنسان المستهلِك!. عندك آلة، إذًا عندك إنتاج!. وإذا كان عندك إنتاج كنت بحاجة إلى سوق، إلى مستهلِك!. بدل أن تنطلق من الحاجات الإنسانيّة، الحاجات الّتي تماشي الطّبيعة البشريّة، تنطلق ممّا تُنتج وتهتمّ بإيجاد السّوق له، ما يستدعي ابتداع حاجات مصطنعة، بتواتر، تضخّها في نظام حياة الإنسان، بحيث تصير حاجاته على صورة ما تنتجه له!. تنتج أيّ شيء!. ولا حاجة لأن يكون نتاجك نافعًا!. المهمّ أن تنجح في إقناع المستهلِك، بما تؤتاه من حجج وهميّة، أنّ منتجك مثير، ضروريّ، عصريّ!. بعد ذلك، بقوّة العادة، وفي إطار علم التّسويق، وسيكولوجيّة الجماعة، تسترسل في صناعة الإنسان ذي الأهواء المستعرة بتواتر!. تستعير ممّا هو طبيعيّ بعضَه وتسلّط عليه آلة العِلم والتّكنولوجيا والخيال، فتُخرج الإنسان، باطّراد، من نطاق الواقع الإنسانيّ ذي الصّلة بطبيعة الإنسان، إلى نطاق عالم إيهاميّ دائم التّغيير والتّبدّل، حفظًا لوتيرة الانتاج، وتحفيزًا لرغبات المستهلِك!. أليس هذا أكثر الاقتصاد الحرّ، والباقي ملء فراغات؟!.
وما المردود بعد أن تنحطّ ممارسات الحرّيّة عندك إلى هذا الدّرَك من العبوديّة؟ فراغ تلهث لتملأه فلا تجد، وسأم عميق، في داخلك، لا ما يبدِّده، وقلق يقضّك أبدًا ولا تعرف كيف تخرج منه مهما استعنت بالمسكِّنات!. المشكلة ليست في أن تجد المعادلة العلميّة المناسبة!. في هذا الإطار، يبحث الإنسان عن حلول لنفسه تغرقه، بالأكثر، في أزماته، ما يجعله يخبط في مشكلاته وأوهامه وقناعاته الموبوءة خبط عشواء!. والمشكلة أنّ الإنسان رذل محبّة الله وأقام غريبًا عنها، فبات غريبًا عن نفسه، إنفصاميَّ الكيان!. حَسِب أنّه يصير بذلك حرًّا فاستغرق في العبوديّة لخياله!. بعض آبائنا يقول عن الخيال إنّه من السّقوط!. إنسان الله واقعيّ بالكامل واقعيّةَ إنسانيّتِه وعلاقتِه بالله والخليقة!. الخيال، بإزاء هذه الواقعيّة، يَقتل، ويقتل الحرّيّة أوّلاً!. يقتلها لأنّ الحرّيّة من الحبّ، والخيال يُحيل الحبّ، بالتّصوّرات، زنى!. الزّنى، بالدّرجة الأولى، نتاج أوهام!. لا علاقة في الزّنى بل انتفاء علاقة!. علاقة بشيء لا علاقة بقلب، بوجه!. لذا يضرب الخيالُ الحرّيّةَ لأنّه يضرب الحبّ، يضرب العلاقة الحقّ، فيمسي الإنسانُ عالمُه إيهاميًّا ومجتمعُه عبيدًا!. فلا غرو إن كان نزوع الإنسان، اليوم، هو إلى كلّ ما يغرقه في عالم الخيال، الّذي يبدو فيه كلّ شيء واقعيًّا، وهو ليس كذلك!. دونك الحاسوب (الكومبيوتر) ومشتقّاته مثلاً!. يستغني الإنسان عن العلاقات الإنسانيّة، بتواتر، ليستعيض عنها بشاشة فيها شخصيّات إيهاميّة تتحرّك!. حتّى في علاقاته بسواه يعتمد إيهام الشّاشة وخباءها وسيطًا يصله بالنّاس، ويجد في التّحديق إليها سِحْرًا ومتعة!. هذا ليس وصالاً، ولا تواصلاً، بل مؤشّرٌ أنّ الإنسان ينحَطّ ليصير أعقم من أن تكون له علاقات مباشرة عميقة بسواه!. أفهم، طبعًا، أنّ الإنسان، بالحاسوب، قادر أن يقيم اتّصالات بغيره، في نطاق التّعامل التّجاريّ معه، بالمعنى الشّامل للفظة “تجارة”!. لست عن هذا أتكلّم!. أتكلّم عن العلاقات في مستوى القلب، في مستوى الكيان، في مستوى الحميميّة الإنسانيّة العميقة!. هذه تجري التّضحية بها باستمرار؛ والنّاس، بالأكثر، ما عادت الكلمة الحيّة تربط بعضَهم بالبعض الآخر!. الكلمة الإيهاميّة، بمعنى، تحلّ محلّها، ما يجعل الإنسان يؤثر التّواري ويكرِّس الخرس والصّمم، في المستوى الكيانيّ، لغة يعزل بها نفسه عن سواه، في مسعًى لتعزيز فردانيّته الإنطوائيّة، إلى أقصى حدّ ممكن، باسم الحرّيّة!. هذه الفردانيّة الإنطوائيّة، هي بالذّات، ما يفعمه شعورًا بالألوهيّة والملوكيّة الوهميّتَين!.
وماذا بعد؟ يقفل الإنسان على نفسه بنفسه، ويستسلم، بالكامل، لنزعات نفسه ونزواتها، في عالم من الخيالات، ما يجعل مسيره مسيرًا عدميٍّا باطّراد!. الإنسان يصير إنسانًا بالانعطاف صوب الآخر، ويَضمر، بروح عدميّة، بالاكتفاء بذاته!. تجدك، والحال هذه، بإزاء إنسان مسخ، يمعن، هو ومجتمعه، متكافِلَين، في تشويه ذاته والعالم!. ما قَدِرَ الإنسانُ أن يطال اللهَ بروح الله فاستعاض عنه بالعدمِ، خيالاً ووهمًا، حاسبًا ذاته إلهًا!.
ويحي مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
15 شباط 2015