الخوف وما يزيله – المطران باسيليوس (منصور)
يقول القدِّيس يوحنَّا الرَّسول في رسالته الأُولى الجامعة “المحبَّةُ تَطرُدُ الخَوفَ خَارِجَاً” هذا التَّلميذ هو المدعو بالذي كان يحبُّه يسوع وكان معروفاً في دار رئيس الكهنة فلم يخشَ شيئاً فتبع يسوعَ إلى هناك ودخل إلى داخل دار رئيس الكهنة، بينما بقي بطرس في الخارج يصطلي مع الحرَّاس والخُدَّام. هو نفسه الذي أحبَّهُ يسوع استحق أن يستلم مهمة العناية بالعذراء بعد صلب السيد وأخذها التلميذ إلى خاصته. هذا التِّلميذ لم يجد الخوف طريقاً إلى قلبه لأنَّه عرف أن يُحِبَّ ويُحَب. ولهذا لم يخشَ شيئاً لا النَّفي ولا العذابات. كتب سفر الرُّؤيا بعد معاينة في السَّماء ذاتها. بالنِّعمة ظهر أقوى من النَّار ومن الزَّيت المغلي وبعد عمر طويل مات ميتة طبيعية.
اعتماداً على ما قاله هذا التِّلميذ علَّم القديس أنطونيوس رهبانه أن يطردوا الخوفَ فقالَ أنا لا أخافُ الله، فتعجَّب تلاميذه والرهبان من حوله. إذا لم يكن أنطونيوس يخاف الله فمن يخافه؟ من يكرِّس نفسه أكثر من أنطونيوس؟ وكيف ذلك؟ ولما استفسروا منه عن قوله هذا قال لهم: “أنا لا أخاف الله لأنَّنِي أحبُّه”. والمحبة ترتبط بالمعرفة. فالإنسان يحب الله إذا قابل حياته وحوادثها بفرح وتأمل مقدار عناية الله به ورعايته له. والمعرفة بهذه الطَّريقة تجعلنا نعرفه لطيفاً، وديعاً، طويل الأناة. فهل يخاف إنسان ما من هذا الذي له هذه الصفات، فكيف يخاف الإنسان الله إذا عرف يقيناً أنه يحبه ويرحمه ويريد خيره، ولكن كما يقول أحد الآباء وهو يعظ راهبات في الدَّير همُّكم الوحيد، والحزن الذي يجب أن يسود على نفوسنا، وهو أننا لا نستطيع أن نبادله حباً بحب على ذات المستوى. “فَهُوَ قَدْ مَاتَ عَنَّا نَحنُ الخَطَأة” يقول الرسول بولص. والرب يسوع يقول “لَيسَ حُبٌّ أَعظَمَ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ الإِنسانُ نَفْسَهُ عَنْ أَحِبَّائه”.
الذين يعرفون الله على أنه ديَّان وعادل ويرمي في النَّار ويُعَذِّب الإنسان بحسب أعماله، هؤلاء يخافونه، أمَّا الذين يعرفونه باللَّطيف الرَّحيم- المُحِب- إلخ هؤلاء فقط يخشون أن لا يوجدوا على مستوى متطلبات المحبة من فضيلة ومتطلباتها، فالقديس اسحق السرياني يقول “عدلُ الله في رحمته”. هذه المعرفة بالصفات الإيجابيَّة والحقيقيَّة تطرد الخوف خارجاً كما تفعل المحبَّة الخالصة النَّقية أما المحبة التي ليست من هذا النقاء والنوع تثبِّت الخوف في القلب وتزرعه ويصبح الإنسان مهموماً. وخاصَّةً إذا أحبَّ شخصاً لا ثباتَ ولا ضمانةَ له بل مزاجي (مع كل ريح بيستريح) هكذا شخص الأفضل الابتعاد عنه وليعمل بالمثل (أُبعد عن الشر وغنيلوا) وكما محبة الله تطرد الخوف خارجاً هكذا هي محبة الأرض والافتخار بالهوية ترفد الإنسان بالمعنويات فيخف خوفه أو يذهب عنه ذهاباً كاملاً ويقوى على المخاطر والمحاذير.
هذه المعرفة والانتماء جعلت القديسين والشهداء والمؤمنين الأوائل يقدِّمون كل شيء محبة بيسوع المسيح الذي يقول عنه القديس يوحنا الذهبي الفم” المعشوق يسوع المسيح”.
وفي يوم عيد القديس اليان الحمصي في السادس من شهر شباط وبناءً على دعوة من متروبوليت حمص جاورجيوس أبو زخم الجزيل الاحترام اشتركتُ في القداس الإلهي الذي ترأسه صاحب الغبطة البطريرك يوحنَّا العاشر وشارك فيه إلى جانب مطران حمص عدد من السادة الأساقفة الذين قدموا من دمشق- طرطوس- صافيتا- وادي النصارى. وتأمَّلت منظر الكنيسة فقلت نحن الاكليروس قد تجاوزنا الحذر وقدمنا إلى المدينة متجاوزين كل خطر لأن هذا هو معنى إخلاصنا لعملنا وقيامنا بواجبات خدمتنا ويجب أن نكون حيث يكون الشعب. هذا الواجب هو الذي قوّانا على الخوف من مخاطر الطريق والممكن من رمايات قد تأتي من هنا وهناك.
ولكن ما الذي دفع هذا الشعب للمجيء بهذه الكثرة ومن أين جاء في هذا اليوم وما الذي دفعه ليتحدَّى النار في مثل هذا اليوم في مدينة لم يسكت فيها صوت الرصاص وقد نتعرَّض لما هو أخطر منه في أي وقت. ما الذي دفع الشباب والشابَّات، الرِّجال والنساء، الصِّغار والكبار للمجيء، لقد كان المنظر رائعاً. قيل لنا أنَّ الكثيرين منهم ما زالوا في المدينة بالرغم من كل الحوادث ورأينا نتائجها بعيوننا. هؤلاء جاؤوا ليستوطنوا في بيوتهم وحاراتهم ثانية. لقد تعلموا من حوادث الشعوب عبر التاريخ أن من يبتعد عن وطنه تضيع أصوله وقد لا يعود أصلاً.
لقد عادوا بالرغم من أن كثيرين منهم يعيشون على المساعدات. والماء صعب إيجاده والخدمات في بداية تأمينها، وبيوتهم متضرِّرة ولا تقي جيداً لا من حرٍّ ولا قَر. البعض يغلقون نوافذ بيوتهم بالأستار البلاستيكية أو بالأقمشة سؤالنا ما الذي أبقاهم؟ أو أعادهم؟ ويوجدون متجمِّعين تجمعاً كبيراً في يوم الجمعة في مدينة لم تهدأ أمورها بعد، ويوم الجمعة في سوريا من أخطر أيام الأسبوع ولماذا لا يخافون ولم يهربوا. فلم نرَ جواباً إلا إيمانهم.
نعم إن الايمان كالمحبة والمعرفة يطرد الخوف خارجاً. لقد بقي الشعب في حمص مؤمناً بالرغم من كل الأيديولوجيات التي جلدت ايمانهم وتقواهم. وقد أعطت حمص عدداً كبيراً من الشهداء والمعترفين والقديسين ومن عندهم مدرسة الهَبَلَةْ في الله. لقد اختاروا دائماً الكرامة والعزة والإيمان ومحبة الله خالصة له. لقد كان اللقاء عاطفياً جداً ويعطي للعالم تأكيداً أن الشعب الذي يسير ويقطن في أحياء وزواريب وشوارع يحيط بهم خطر النار هو شعب يستحق أن يسخر من كل خطر ويستحق الحياة وفرح الحياة كما اشتهاها واختارها وأصرَّ عليها.
حمى الله حمص وأهلها جميعاً بشفاعات الأولياء والقديسين منها. وحمى الإله القدير العالم أجمع من كل الشرور وليعيد كلَّ مهجَّرٍ إلى بيته وعائلته ويوطد السلام والمحبة والايمان النقي في كلِّ عقل ولينزله إلى كلِّ قلب، لعلَّ الدنيا تصبح كما في السماء. آمين.
نشرة البشارة
15 شباط 2015