مقابلة مع المتروبوليت سابا (اسبر) – الجزء الثاني
– عام 1998 إلى دمشق، بماذا تميزت هذه الفترة؟ خاصة مع الفروقات الكبيرة بطبيعة المدينة و ثقافة المجتمع و الوضع الروحي؟
تمّت سيامتي أسقفاً في 29 تشرين الثاني 1998 على يد البطريرك المثلث الرحمات أغناطيوس هزيم وعُيّنت أسقفاً مُساعداً. وانتُخبت متروبوليتاً على استراليا في 4 أيار1999 ونتيجة اعتذاري تم انتدابي إلى أبرشية حوران في 7 أيار 1999.
بدايةً، الانتقال إلى مدينة كبرى مثل دمشق كان مُقلقاً لي. تهيّبت العيش في مدينة كبرى لا أعرفها سابقاً، وفي َجَوّ لم أختبره من قبل. كنت في اللاذقية محضوناً من عائلتَيَّ الجسدية والروحية، لمدة 38 سنة، لم يكن هجرانه سهلاً، اعتقدت أنّني سأفتقده في دمشق، حيث الوضع مختلف. دمشق مدينة كبيرة، مقارنةً باللاذقية، وتاريخها الكنسي لا يشابه تاريخ اللاذقية روحياً.
لكني فوجئت بالعطش الروحي الموجود فيها، نسيت كلّ مخاوفي وانخرطت بقوة في العمل مثلما كنت أعمل في اللاذقية، وربما أكثر وتعلقت بها جداً. لقد وقعت في غرامها سريعاً.
عندما غادرت اللاذقية إلى دمشق شعرتُ بثقلٍ في قلبي لم يفارقني حتى رسامتي، لكن عندما غادرتها، بعد ستة شهور، إلى حوران، لم تفارق دموعي عيناي طوال الطريق. تعلقت بدمشق لأنّي وجدتُ فيها مجالات عمل واسعة كانت لتمنحني تحقيق ذاتي بشكل آخر، كنت أرغبه.
– عام 1999 متروبوليتاً بصرى حوران وجبل العرب و الجولان (الأبرشية المنسية)، في هذا المحور ننتظر لتحدثنا عن قيامتها، كيف بدأت العمل في أبرشيةٍ كانت أطلالاً عند قدومك؟
وضعت خطة عمل مؤلفة من خطّين رئيسيين متوازييّن : التنمية الوقفية الاستثمارية المالية، والتنمية الروحية.
نحتاج مصاريف حتى نؤمن الخدمة الروحية. و حتى نؤمّن المصاريف نحتاج إلى أبناء كنيسة حقاً، هؤلاء لا يوجدون إلا بخدمة روحية حقة. ولقد أمّن الله، وما يزال، العون اللازم على الصعيدين. له الشكر والامتنان. كانت يده ملموسة، طوال الدرب. أحسه، وكأنّ شخصا يمسك بيدي مشجعاً إياي لإكمال الدرب. لذلك أنا متيقن من أّن الرّب هو من أنقذ الأبرشية ونشلَها ممّا كانت فيه. وهذا الاعتقاد كان، ولا يزال، تعزيتي الأولى حتى اليوم. حضوره، له المجد، ما يخرجني مما ينتابني أحيانا من حالات إحباط وشّدة.
سرت الدرب بالخطّين المتوازيين. كانت الأولوية للعناية بالكهنة الموجودين، واستقدام كهنة جدد. كذلك التعليم. بدأنا بمدارس الأحد بعد يومين من دخولي الأبرشية، بهمة شابّين مبتدئَين قدِموا معي من اللاّذقية هما الأب سلوان والأب أليكسي. لقد داوما الصيف كله لمدة سنتين، وطافا القرى ليعلما الأطفال والشبيبة.
وهكذا انطلقت خطوة بخطوة ..بطريقة عمل عملية .. أضع خطة كاملة لأي مشروع أريد القيام به، وأبدأ بالتنفيذ خطوة خطوة، بعد طلب بركة الرب.
عند فشل مشروع ما، وقد حدث مرات عدة، ألغيه ببساطة، إيماناً بأنّ الرب لا يباركه. بالمقابل المشاريع التي تنجح كانت تستُكمَل بطرق عجيبة، لا يمكن إلا أن نعتبر أنّ يد الرب كانت تعمل فيها. أن يكون لدينا هذه المؤسسات بعد 15 سنة، أمر لا يمكن تفسيره إلا بالله الذي يرعى وييَسَّرَ كُلَّ شيء.
– هلّا شاركتنا بقصة تشهد لعمل الله في هذه المشاريع
عند انتخابي مطرانا على استراليا، كنت أقرأ كتابا عن الأم تيريزا وعملها في الهند. أغلقت الكتاب على الصفحة التي كنت قد وصلت إليها، وتابعت الأمر الطّارئ، ومن ثم قضية انتقالي إلى حوران التي استغرقت شهراً ونصف، حتى دخلتها. بعد استقراري في المطرانية، تناولت الكتاب لمتابعة قراءته، فاكتشفت أنني كنت قد وصلت إلى المرحلة التي توضحت فيها دعوتها، أن تكون رسولة لأفقر الفقراء، و ليس للفقراء فقط. أليس هذا رسالة من الله؟! رسالة يريد أن يحملني فيها مسؤولية إحياء كنيسته في تلك المنطقة التي أهملها التاريخ طويلاً.
أما الحوادث فكثيرة، أذكر قصة ظهور مجلة العربية، بعدما وجدت حاجة ماسة لوسيلة وعظ وتعليم منتظمة، حصلنا على ترخيصٍ بإصدارها في وقت كان القانون يمنع ترخيص مجلات دينية. وقد تم الأمر دون تدخل من أي نوع كان. كنت وما أزال أؤمن أن الله عندما يريد شيئاً يدبّره.
وصل جواب الوزارة بمنح الترخيص وكنتُ خارج المطرانية. عُدت متأخراً فقرأتُه بفرح، ولكن بدأ التفكير الجدي، كيف سأبدأ وما من ميزانيّة ولا حتى أبسط اللوازم كجهاز كومبيوتر.
صعدتُ إلى غرفتي متفكراً، في الصّباح، وجدتُ في الفاكس رسالةً من شخصٍ لا أعرفه اسمه (جون ترللو)، من أتلانتا سيتي. مُهتدٍ إلى الأرثوذكسية و يهتم بالمكتبات الدينية، عرفني عن طريق كاهن رعيته الجديد، وكان زميلي في البلمند. يقول لي في هذه رسالته أنه اطّلع على مجلة فرح، و أنه سعيد جداً لأن يرى مجلة أرثوذكسية للأطفال باللغة العربية. ويخبرني بأنه يريد إرسال ألفين وخمسمئة دولار عن روح أمّه، بشرط أن تُصرف حصرياً في مجال النّشر الكنسي…
أليست هذه أعجوبة؟!!
رعايةُ الله لنا فيها أعاجيب يومية، عندي حوادث كثيرة من هذا النّوع، حصلت في الأبرشية وما تزال حتى الآن. أليست هي يدُ الله؟ ننسى عموماً، في غمرة حماسنا، أنّها كنيسته هو، وأنه يحبها ويسهر عليها أفضل منا. علينا أن نضع كلّ مشروع، كلّ فكرة، بين يديه أولاً. إن باركها ستتيسر، وإن لم تتيسر فلا نُتعبن أنفسنا بالركض وراء مصادر تمويل، لأنه لا يباركها.
– كيف بدأت بالعمل على الوضع الروحي في الأبرشية؟
أمامَ واقعٍ يفيد أن غالبية الأولاد لا يعرفونَ كيف يرسمون إشارة الصليب، كان إنشاء مدارس الأحد ضرورة مُلحّة ولها الأولوية. ولا يزال هذا الأمر هاجساً أساسياً، لأنه لم ينتظم بعد، لعدم توفر الأشخاص المؤهّلين للقيام به.
كان مشروع تأهيل الكهنة الموجودين من الأولويات، وجدتُ في الأبرشية أربعةَ كهنةٍ في سنّ الشباب، ما حصلوا على تعليمٍ لاهوتي. لاحقاً أرسلتُ بعضاً منهم للالتحاق ببرنامج إعداد الكهنة، الذي كان يقوم به دير القديس جاورجيوس الحميراء. وسعيتُ إلى التّثقيف الرعائي اللازم عبر الاجتماعات الدورية لكهنة الأبرشية، ثم بدأتُ البحثَ عن دعواتٍ جديدة.
الوعظ أساسيٌّ أيضاً، يتمَّم في كلّ خدمة. في البداية أصدرنا نشرة شهرية، على شاكلة “رعيتي”، تطوّرت لتصبح جريدة “العربية” الشهرية التي ظلّت توزّع في جميع الرعايا مجاناً، لمدة 5 سنوات بعد صدوره.
بدأنا نزوّد الكهنة بكتبٍ تعليميّةٍ يقدمونها هدايا في زياراتهم الرعوية، كما بدأنا ببعض أنشطة رعوية جديدة، كالاحتفال بطلّاب الشهادات الناجحين، ولقاءات مجموعة من العائلات من وقت لآخر، سهرات روحية، رحلات و مخيمات للشباب، دورات إعداد مرشدين، دورات تدبير منزلي. حاولنا قدر الإمكان أن نشعر الشعب بأن الكنيسة عائلته، و ليست مكاناً للجنازة و العمادة و الإكليل فقط. مفهوم الكنيسة العائلة غائب كلياً عن المنطقة، حتى اليوم، بالرّغم من كلِّ ما بُذل من خدمات. تقييمي أنّ محصلة ما تم من جهود وخدمات حتى الآن ما يزال بسيطا جداً، والأسباب عديدة منها عدم توفّر خدام بشكل كافٍ ونوعي، وبسبب التاريخ الطويل من الجمود والانقطاع. كان همّي أن يشعروا أن الكنيسة عائلتهم و بيتهم، أعتقد قطعنا مراحل مقبولة و لكن أعتقد لو كان معي رعاة و مكرّسين أكثر و هناك تجاوب من الناس أكثر لكنّا قطعنا أشواطاً أكثرَ بكثير.
– سيدنا سننتقل بالحديث إلى المشاريع التي قمتم بها و قد ذكرتَ سابقاً أنك اشتغلت على خطّين متوازيين، خدمي و استثماري
الأبرشية في زاوية جنوبية من سورية لا هي زراعية تماماً ولا سياحية، ولا حتى صناعية. هناك القليل من الآثار. يأتي السوّاح في النهار للزيارة فقط. قربها من العاصمة جعلها تعتمد عليها في كل شيء. لم تكن الأبرشية تمتلك سوى أرض المطرانية في السويداء. فما هو المشروع الاستثماري المطلوب؟ يحتاج الجواب إلى تفكيرٍ ودراسة.
وضعتُ هدفين للوقف ومشاريعه: خدمي و استثماري. لا يجوز أن يطغى هدف على الآخر. لم يكن بمقدورنا القيام بمشاريع خدمية فقط، لأننا لا نملك أرضاً ولا مدخولاً منتظماً. بقينا سنواتٍ طويلةً معتمدين على المساعدات بشكل شبه كلي. اليوم وبعد 15 سنة وصل مدخول الأبرشية إلى ما يعادل 75% من مصروفها. هذا في حقل الاستثمار فقط. أمّا حقل التّنمية والتطوير فيعتمد على التبرعات كلياً، في السّنين الخمسة الأولى كنا نأكل مجدرة أو برغل بحمص أوماشابه دون سلطة في الأسبوع الأخير من الشهر.
إذن علينا العمل بخطين متوازيين أيضاً، لا تستطيع الكنيسة إهمال رسالتها الخدمية، و لاتستطيع إتمامها دون تمويل. في النهاية الكنيسة، وإن عملت في مجال الاستثمار فهي ليست مؤسسة استثمارية، بل شاهدة لمحبة ربّها للعالم. إنها بحاجة إلى العمل في الخطّين بالتّوازي، بحيث لا ترجح كفة الاستثماري على الخدمي، ولا يتراجع الخدمي بسبب الضعف الاستثماري.
اكتشفتُ عدم وجود فندق في المدينة. والأبرشية بحاجة لإحياء تواصلها مع الأبرشيات الأخرى. فكانت البداية بتجهيز طابق المكاتب الموجود ليكون بمثابة مضافة. وهذا ما تم بمساعدة الأبرشيات الأخرى.
استرددنا، بالتدريج بعض المكاتب المباعة، وأكملنا تجهيز الباقية، وافتتحننا “مضافة القديس بولس” بعد سنة من قدومي. كان مشروعاً مبارَكاً، ساهم في تحقيق تواصل بين الأبرشية وأخواتها في الكرسي الأنطاكي، وهيّأ مكاناً للشّبيبة يستعملونه لقضاء عدة أيام بمثابة مخيم، وزاد من حجم التبرعات الشخصية التي يقدمها الزوار، عدا مدخول بدل المبيت والإطعام.
بنينا طابقا ثانياً بعد سبع سنوات، و أخلينا 3 مكاتب فبلغ استيعاب المضافة خمسين شخصاً و هي جاهزة للاستقبال صيفاً لمن يرغب بالإقامة أو الزيارة.
نشأ المشروع الثاني من واقع الأبرشية الزّراعي ونتاجه. فكان مشروع “من خيرات ربنا” القائم على إنتاج المنطقة الزراعي القابل لتصنيعه طعاماً تقليدياً ( لبنة مكبوسة بالزيت، مكدوس، نبيذ، جبنة، زعتر، مربيات، شراب التوت …). دام المشروع خمس سنوات وتوقف بعد عام 2005 بسبب عدم القدرة على إيصال الإنتاج إلى لبنان الذي كان يستهلك بواسطة الرحلات أو “خزانة حوران” في طرابلس وبيروت اللتين افتتحهما مركزي بيروت وطرابلس لمساعدتنا.
– ماذا عن مشروع “خبز للجميع” الخيري؟ كيف بدأتموه وأنتم في العوز؟
انطلق هذا المشروع من الحاجة التي تبيّنتُها من المحتاجين الذين يقصدون المطرانية طلباً للمساعدة. كانت غالبية الطلبات محصورة بالاستشفاء والطعام. كنّا نساعدهم بما لدينا من مواد غذائية. كان البعض يطلبون خبزاً. بدأنا التفكير في إقامة مطعم مجاني أسبوعياً. ولكن الفكرة لم تُقبل من الناحية الاجتماعية، فجميع من استشرناهم فضلوا توزيع مساعدات غذائية عينية. بدأنا دون ميزانية، مما نستطيع أن نوفّره من مشروع “من خيرات ربنا”، بالإضافة إلى بعض التبرعات الواردة. كانت الانطلاقة ب(12) عائلة سرعان ما ارتفع عددهم إلى (50) فثمانين. وحالياً يخدم المشروع (380) عائلة.
تكمن أهمية هذا المشروع بنظري أنه إطلالة للكنيسة على المجتمع وتفعيل لحضورها في وسطه. بما أنّ المساعدة للجميع فليكن العمل من الجميع أيضاً. بدأت هيئة المشروع بست سيدات ثلاث منهن مسيحيات وثلاث درزيات، بعدما قمت بزيارة للمشايخ وأعلمتهم بانطلاق المشروع قريباً.
بداية كنا نوزع أسبوعياً، ثم وجدنا الأمر متعباً جداً، فجعلناه شهرياً.
– كيف استطعتم معرفة العائلات المحتاجة من غيرها
وضعنا الهدف : مساعدة العائلات الأفقر. وحصرناها بمعيل العائلة العاجز أو المتوفي، والذين ليس لهم معيل، والأفضلية للعائلة الفقيرة التي تملك أطفالاً أكثر. و اكتشفنا كم هي ثقة الناس بالكنيسة. فسرعان ما عُرف المشروع وبدأت التبرعات العينية تنهال علينا، من أناسٍ نعرفهم ومن أكثريّة لا نعرفها. كنّا نجد تبرعات موضوعة على باب المطرانية دون تعريفٍ بمُرسلها.
سأروي لك حادثة جميلة ..
مرة في تموز و الحر شديد جداً، شعرتُ بحركة ما في ساحة المطرانية، وكانت الساعة الثانية والنصف ظهراً. خرجتُ لأرى سيارة متوقفة بجانب الكنيسة، حيث مستودع المشروع. رأيت سيدتين إحداهما شابة و الأخرى مُسنّة، ارتبكتا عندما شاهدتاني، وكانتا تُفرغان مستودع السيارة من صناديق تحوي أطعمة متنوعة، مرتّبة بعناية. بعد السلام، حاولت مساعدَتهما في إنزال الصناديق فرفضتا قائلتين: ” نرجوك أبونا لا تحرمنا بركة تعب النَّقل” ولم تقبلا بالإفصاح عن اسميهما وهما غير مسيحيتين.
أكد هذا المشروع دور الكنيسة الكبير في المجتمع، ومدى التجاوب معها في مجتمعنا.
تابعونا في الجزء الثالث