الجزء الثالث من المقابلة مع المتروبوليت سابا (اسبر)
– ماذا عن باقي المشاريع… المستوصف على سبيل المثال.
بدأ مركز الحكمة الطبي الخيري في العام 2006 و ما يزال يتطور يوماً فيوم. طلبت من مندوبي اليونان المسؤولين عن المشاريع الصحية في الشرق في الاتحاد الأوربي مساعدتنا في إنشاء مستوصف للفقراء. كان جوابهم إيجابياً، وطلبوا مكاناً. من ناحيتي، أخذتُ الموضوع ببساطة شديدة وقدّمت لهم غرفتين مع موزّع في بناءٍ تابعٍ للكنيسة. رفضوا وأبدوا استعدادهم لبناء مبنى خاص إذا توفرت أرض عندنا. لم أكن أتخيل أن المشروع سيكون ضخماً، أريتهم الأرض التي كنت قد استرجعتها بعد دفع المطلوب منذ أسبوعين على زيارتهم فقط. كانت مقبرةً في الماضي، وقد باعها المطران السابق، ولسبب قانوني طرأ بعد بيعها لم يتم تسجيلها. لو أن الوفد اليوناني زارني قبل 15 يوماً لكنّا خسرنا المشروع. أليست يدُ الله هنا أيضاً؟!!
أعجبتهم الأرض و بدأنا بالمخطط، بنوا الطابق الأرضي، وساعدونا في تأثيثه باللوازم الطبية البسيطة. بعد ذلك خطوة خطوة، أنشأنا جمعية الحكمة الخيرية، هي جمعية نظاميّة مسجّلة في الشؤون الاجتماعية و العمل، و بدأ المستوصف يتطور. عيادات لعدد من الاختصاصات، الأطباء المتطوعون يداومون بحسب برنامج محدّد ثابت، لدينا أفضل مركز بالسويداء للعلاج الفيزيائي من حيث التجهيزات و هو مفتوح بشكل يومي، و هناك المخبر و مؤخراً التصوير الشّعاعي و التصوير البانورامي للأسنان.
يقدم المركز خدماته للجميع بسعر رمزي. ليس لدينا أي مشروع ذو طابع إنساني قائم فقط من أجل المسيحيين، إلا ما هو مرتبط بالكنيسة مباشرة مع أبنائها.
– أرى العديد من المباني الجديدة في أرض المطرانية..
أرض المطرانية واسعة تبلغ 6 دونمات تقريباً و كان عليها بعض أبنية. نحاول، سنة بعد سنة، أن نزيد الطوابق ونبني ما نستطيع. افتُتِح فرع لجامعة دمشق في السويداء وآخر في درعا في العام 2007. تم اتخاذ القرار بفتحهما في 2006. فبادرنا للحال بالعمل على مشروع بيوت الطلبة. بدأنا، في السنة الأولى، بشقتَّين أخليناهما من المستأجرين، وجهزناهما بما يلزم لإقامة طلّاب. كانت البداية في 2007 مع 16 طالب، وبالتدريج ، بحسب التخطيط الكامل والتنفيذ المرحلي، ارتفع العدد في السويداء إلى 160 في العام الدراسي 2014/2015.
أما في درعا فتوصلنا إلى سعة 42 طالبة، و لكن المشروع توقّف مع بداية المحنة السورية.
كذلك، افتتحنا حضانة بسيطة جدا للأطفال عام 2003 . استقبلنا أطفالا، لرعايتهم خلال عمل أمهاتهم. مع الوقت صار لدينا حضانتين في كل من درعا و السويداء.
– سيدنا لديك الكثير من البصمات على صعيد الترجمة و النشر
أحضرتُ مكتبتي معي من اللاذقية، و بدأنا بمجلة “العربية” وتابعنا إصدار “فرح”. قررنا أن ننشر في مجالات الأطفال والرعاية وبعض القضايا الاختصاصيّة التي تحتاج إلى موقف أرثوذكسي منها. توقفت المجلّتان لأسباب مختلفة في العام 2013، منها ظروف البلد الحالية. أما الكتب فتقتصر، في السنتين الأخيرتين، على ما أكتبه أو أترجمه. لأنني اتّخذتُ قراراً ببيع الكتب بسعر الكلفة دعماً للبشارة.
المشروع الأهم بخصوص الأطفال، هو سلسلة الكتب التعليمية للمرحلة الابتدائية. وهو منهاج متكامل، أعدّته أبرشيته أميركا الشمالية اليونانية، بمساهمة إخصائيين في اللاهوت والتربية والرعاية. قمنا بتعريب النصوص ، آخذين بعين الاعتبار، ما يمكن واقع وتاريخ وظرف كنيستنا الأنطاكية، أي لم تكن الترجمة حرفية بل قمنا بتعديلات على بعض الصّور والنصوص. نشرنا ثلاث كتب والرابع جاهز للطّباعة، لكن تأزّم الوضع الأمني، وما رافقه من صعوبة في المعيشة اضطّرنا إلى التوقف.
– هل لاقى رواجاً على صعيد الأبرشيات و المراكز الحركية؟
اللذين جرّبوه كانوا مشجّعين جداً لمتابعته وتعميمه، لكن ما خلا مركز دمشق، لم يهتم به أي من الهيئات الكنسية التربوية. اقتصر الاهتمام بتطبيقه وتعميمه على أفراد غيورين يتحسسون الهم التّربوي ويولونه أهمية قصوى. لقد أظهَرَت هذه الخبرة، أكثر فأكثر، أن الهم التّربوي ضعيف جداً في الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية للأسف. لو حصل تجاوب رسمي مع هذه الكتب، لكُنّا تابعنا المشروع، رغم الظروف المأساوية. كان التعاطي معها انتقائياً شخصياً، أظهر كم أن العمل المشترك صعبُ في كنيستنا. و هنا أريد توجيه شكر خاص لمركز دمشق، لأنه الهيئة الرسميّة الوحيدة التي اهتمّت باعتماد هذه الكتب و اقتنائها للفائدة.
– هل هذا من نتائج ضعف الروح الشركوية؟
لدينا المال الكافي للحفلات و النشاطات و الترفيه لكن ليس لدينا المال لبناء النّفوس… فما المبرّر سوى ضعف روح التّقوى القائمة على خلاص النفوس. هناك رجحانٌ مفرط للوجه الاجتماعي للكنيسة على الوجه التّقديسي.
سوف ننتقل إلى محور الأزمة
في ظلِّ الأزمة كان للمطرانية دورٌ فعّال على صعيد الشهادة للمسيح و للمحبة الفاعلة، ليس فقط للمسيحيين، بل لجميع المواطنين. هذا الحديث على لسان الطوائف الأخرى قبل المسيحيين، ماذا كان نهجكم في العمل منذ بدء الأزمة؟
لم نقم بما هو إضافي في الأزمة، بل تابعنا وفعلّنا السياسة الخدمية الشهادية التي رسمناها وعملنا بها منذ البدء. تقوم هذه السياسة على مبدأ حضور الكنيسة في قلب المجتمع وعلى التعامل و التعاطي مع كل أبناء المجتمع، وليس مع أبنائنا فقط. هذا كان نهجنا منذ البداية. أصبحت الحاجات، خلال الأزمة، أكثر إلحاحاً. واكتشف المواطنون، المقيمون والوافدون، أهمية الدور الذي قمنا ونقوم فيه. الكثير من أبنائنا الذين كانوا ينتقدونني أوّل الأمر، اكتشفوا لاحقاً أهمية عمل الكنيسة بالشكل الذي انتهجناه. العمل الكنسي الأبرز الذي تم خلال الأزمة، هو افتتاح مراكز لدائرة العلاقات المسكونية و التنمية التابعة للبطريركية الأنطاكيّة الأرثوذكسية، في كافة الأبرشيات السورية. عندنا مركزين رئيسَين في كل من السويداء ودرعا، بالإضافة إلى مركز فرعي في إزرع يتبع لمركز درعا. تعمل هذه المراكز بتنسيق كامل مع الكنيسة و برعاية تامة من المطران. هذا أعطاها دفعاً قوياً، وهي أعطت الكنيسة دفعاً وحضوراً مميّزَين، خاصة وأنها تتبع النهج الذي نؤمن به في الأبرشية. أعتقد هناك تناغم و تكامل في العمل الخدمي الشّهادي. ما أحوجنا إليه في كافة الميادين. ليس لدينا ما هو أكثر من غيرنا. لا بل كم المساعدات التي يقدمها غيرنا قد يكون أكثر منّا. ربما الميزة الأساسية التي أخذت (صيت) هو هذا النَّفَس التناغمي و التكاملي الذي يتم به العمل في كل مرافق الأبرشية.
– كم عائلة مهجّرة استطاعت المطرانية مساعدتها؟
تضمُّ سجلاّتنا في السويداء (13000) عائلة من المهجرين و الوافدين، و في درعا (48000) عائلة. تُعتبر درعا منطقة منكوبة، وعدد سكانها أكبر بعدة أضعاف، أما السويداء فمستقبِلة. هذا العمل و كما يعلم الجميع، قائم على مِنَح تأتي من هيئات مانحة تتوزع وفق شروط تحدّدها هذه الهيئات. ونحن ملزَمون بتطبيقها.
أما بخصوص أبنائنا فهم يستفيدون من هذه المراكز كغيرهم، وفق الشروط المنصوص عليها. بالإضافة إلى ما تؤمنه المطرانية من مساعدة عبر “لجنة السامري الصالح” التي أسّسناها بعد بدء الأزمة استشعاراً بالكوارث المقبلة. نغذي “السامري الصالح” من مدخول المطرانية وتبرعات الأصدقاء والإخوة. إنه مشروعٌ ينمو ببطء بسبب ضعف موارد الأبرشية والاعتماد على التبرعات الآتية من الخارج، خصوصاً من أبرشيتنا في أمريكا الشمالية. حيث لدينا توأمة مع أسقفية ويتشيتا.
– أيضاً سيدنا في ظل هذه الأزمة، برأيك، إلى أين نحن ذاهبون؟ ما هي رؤيتك لما هو قادم؟
لست أعلم ماذا يخطّطون في السياسة و لكني أستطيع أن أقول أننا في يد الله. و نجتاز حالياً أوقاتاً صعبة جداً. قد تكون الأخطر على المسيحيين، لأنه اتهدّد بقاءهم في ديارهم. كل ما نرجوه أن نبقى في هذه الدّيار، وألاّ نتركها. نبقى في الرجاء بالقيامة الآتية، وعلى إيماننا بأن الله، في نهاية المطاف، سيّد التاريخ.
– في هذه الأزمة، ما هو المطلوب منّا كمسيحيين، و هل نحن برأيك، إكليروساً و شعباً، قدّمنا شهادةً للمسيح الحاضرِ فينا؟
خبرتي في الأبرشية تدل أنّه لدينا مجال للعمل في المجتمع أكثر بكثير مما كنّا نظن، لكن المسيحيين غير مدركين لأهمية دورهم وغير مهيّئين كفاية للقيام به.بكلام واقعي، إمكاناتنا أقل من المطلوب، ولكننا نستطيع القيام بدور أكثر من الذي نقوم به لو تعاونّا كما يجب.
هناك أمر مهم تجدر ملاحظته، الخبرة تدل أنّنا لا نزال مقبولين من كل الأطراف، ولكن لا يبدو أنّنا مدركين لأهميّتنا عملياً لا نظرياً، لذلك لم نهيّئ أنفسنا للقيام به كما يجب.
– عملياً ما الذي يمكن أن نقوم به، برأيك؟
أميل للاعتقاد بأهمية وعي إيماننا وما يقدّمه من قدرات، لو تبنيناها بروحٍ رساليّة، وفعّلناها لأمكننا أن نلعب دوراً أكبرَ بكثير مما نلعبه اليوم، على كل الصعد، الكنسي و الوطني و الخيري و السياسي.
– في المجمع ألا تبحثون هكذا مواضيع؟
ليس الموضوع قضيّة مجمع فقط، إنّه قضيّة نَفَس عام بين المسيحيين. نَفَس ساهم التاريخ الثقيل الذي حملناه في إنتاجه. الأرثوذكس لم يعملوا كعائلة روحيّة واحدة، تعاطوا بالأكثر، مع بعضهم و مع المجتمع، كأفراد كانوا مميّزين ولعبوا أدوراً مهمّة ومفصليّة أحياناً، لكن على الصعيد الفردي. لم ينأَ الأرثوذكس عن غيرهم، بل عن بعضهم، أي عن أنفسهم. انضمّوا إلى غيرهم من مواطنيهم تحت شعارات بدَت متقدّمة، لكنّها لم تنجح في تحقيق أهدافها. فاكتشفوا متأخّرين أن واقع الشرق لم يرقَ إلى مستوى الدّولة بعد، بل ما زالت العائلة و الطائفة و القبيلة طاغية عليهم. لقد تأثر المسيحيون عموماً، بشكل واعٍ أو غير واعٍ، بالعلمانية الغربية، التي بدا أنها غير مناسبة للعالم الإسلامي الذي يعيشون فيه. ما استطاعوا تشكيل جماعة قوية روحياً بحيث تساهم في تحقيق آمالهم وآمال شعوبهم انطلاقاً من إيمانهم وروحانيتهم. فالقصة أكبر من قرارات مجمع، من أصعب العوائق التي تواجهني، كمطران، حثّ المؤمنين على التعاون للقيام بمشروع ما، أو دور ما لخدمتهم أو لخدمة غيرهم.
– للأسف هذا نجده في الكنيسة و على كل المستويات، الإكليروس، الحركة، الرعايا، المؤسسات الكنسية، هناك أشخاص تلمع و تعمل بطريقة ما و لكننا لم نستطع حتى اليوم تكوين جماعة تعمل مع بعضها للأسف إلا ما قلّ و ندر.
قناعتي أن المسيحيّين يحتاجون إلى تفعيل العمل الجماعي، والحضور كجماعة وليس كأفراد فقط. لقد اهتممنا بالحضور في المجتمع على الصعيد الفردي لا الجماعي. هذا من أسباب عدم تأثيرنا بالقدر المطلوب.
– ننتقل إلى الهجرة، هل الكنيسة بفكرها تُشجع الهجرة في مثل هذه الظروف؟ لم يبقَ إلاّ القلّة القليلة خاصة من جيل الشباب…
للأسف، نحن اليوم في وضع خطر. الكنيسة، كهيئة وقيادة ضد الهجرة، ولكن هل نستطيع إيقافها؟ هنا السؤال. ربما إذا عملنا سويّة ووحدنا الطاقات نستطيع الحد منها. و لكن هل نستطيع إيقافها؟ ما يحدث أكبر من قدراتنا ومن طاقاتنا وإمكانياتنا. وحده الإيمان بالشهادة ليسوع المسيح في هذه الأرض يجعلنا نتشبث بها ولا نغادرها رغم كل شيء. هذا يحتاج إلى إيمان عظيم. مصائرُ شعوبٍ على المحك اليوم. ومع ذلك لا يعني كلامي ألاّ نقوم بما نستطيع القيام به، بل على العكس أبيّن عظم التحديات لأشحذ الإيمان.
– إذاً ماذا فعلت الكنيسة لتحد من هجرة الشباب؟ هل من خطوات لتساعدهم على البقاء في أرضهم؟
هذا موضوع واسع يتطلب بحثاً خاصاً .أتمنى أن نكون واقعييّن و نطرح مشاريع لدينا القدرة على القيام بها. عادة يتمسّك البعض بمشروع ويدافعون عنه ويهاجمون الكنيسة من أجله وكأنه الحل المطلق للمشكلة المطروحة. نحتاج إلى دقّة في دراساتنا ووعي لواقعنا وبعد نظر لمستقبلنا وذلك عندما نطرح الخطوات التي تساعد المسيحيين على البقاء وتحد من هجرتهم. التحديات الرّاهنة تتجاوز قدرات الدول فكيف بالكنيسة. تستطيع الكنيسة أن تسدّ فراغاً لا تقوم به الدولة أي أن تساعدها في ملء الحاجة المطلوبة في بعض الميادين. علينا أن نقوم بما في الإمكان متّكلين على الرب الذي يبارك ويوسع الإمكانات
تابعونا في الجزء الرابع والأخير