الأرثوذكسية ومعاني الصوم – المطران باسيليوس (منصور)
كثيرون الذين ينتقدون الكنيسة الأرثوذكسية على تمسكها بأيام الصوم كما حددت منذ أقدم العصور المسيحية، وعاشها الأباء القديسون والأسلاف أولئك في أديارهم ومناسكهم، وهؤلاء في مكان خدمتهم وقلاياتهم في المدن، ومن كان منهم متزوجاً له عائلة أم بدون عائلة. كانوا يعيشون الصوم كما يعيشه من ارتضى التكرُّس الكامل لله، إلا ما زاد في شدته وحرمانه، أي كما يقول القديس إسحق السرياني: “يعيشون كلهم في مجتمعاتهم على سجية واحدة وتشابُه بغية خلاصهم.
ولا زالت الكنيسة حتى هذه الساعة تعلِّم عن الصوم ذات التعاليم وذات التوجيه، ولن تغير شيئاً في المستقبل، ولكن تاركة فعل التدبير (ايكونوميا) للأسقف أو للأب الروحي.
لماذا هذا التمسك الكلي بالصوم؟ الجواب في نتائج الصوم ذاتها. ومن عاش خبرته المادية والروحية يدرك تماماً ما أقصد. فالصوم جهاد للنفس والجسد وتقوية للنفس على أهواء الجسد، وترويض للجسد بما يتيح للنفس أن تعيش الفضيلة بارتياح ومجالات أكبر من الحريّة.
الصوم يعطي الإمكانية للإنسان أن يقف أمام شهواته، ويقول لذاته وبكل جرأة لن أفعل هذا. هذه الإمكانية يحاربها الجيل الحاضر بثقافاته وترتيباته الأنانية، الإنسان حر أن يفعل ما يريد، ولهذا قلّت حرية الآخرين واتسعت حرية الفرد، بينما في التربية المسيحية، يحمل الإنسان صليبه لأجل حرية الآخرين فتكثر السعادة والحرية والمحبة. إذاً لا يوجد أفضل من شعور الإنسان أنه محبوب، وأن هناك من يرى أنه مستحق أن يضحى لأجله. هذه المحبوبية تظهر بالمشاركة: الكل يعلم أنَّ المسيحيين الأوائل إضافة للنتائج الروحية والخبرات القدسية إبتغوا من وراء هذا الجهاد مشاركة المحتاجين وأبناء السبيل ونمو شعور التعاضد والتعاون. لأنهم كما يقول أحد المدافعين المسيحيين الشهداء عن هدف المسيحيين الأبرز في الصوم هو عمل الخير والإحسان (المسيحيون يصومون وينقطعون عن الطعام لفترة لكي يوفرونه، يُعينون المحتاجين). وهذا ما يفعله النساك الذين يعيشون الفقرَ الطوعي، يعملون وبما يتوفر لديهم، يعينون النساك العجزة أو المرضى أو من يطلب منهم، ولعلّ في ذلك تحقيق للآية الكتابية “بدد وأعطى المساكين فبرُّه يدوم الى الأبد”. والصوم قائد الى التوبة. فبممارسته يعلن الإنسان أنَّه يتخلى عما لذَّ وطاب في هذا العالم محبة بالله، وإبتغاءً لذلك الملكوت النقي الروحاني.
إذا كان الصوم يساعد على إتمام أعمال الرحمة والمهام الروحية فهو يسهل عمل الصلاة. الإنسان المتخم من المآكل والمشارب لا يستطيع أن يصلي جيداً لأن وضعه الصحي يولد عنده الكثير من الأفكار، وأكثرها لا ينفع إذا لم تكن عاطلة. أما الإنسان الصائم فلا يتحكم فقط بشهواته بل وبفكره لأن الصوم أولاً وأخيراً هو نوع من الصلاة، أي هو حركة قويّة نحو الله. والله هو الذي يعطيه معناه وقوّته ويكافئ عليه، وعلى ما ينتج عنه من فضائل. يؤكد الرهبان دائماً أنهم لا يستطيعون الصلاة جيداً، أو حتى إتمام قوانينهم الروحية النسكية. لأنهم بسبب الأطعمة وعشرة الناس بطريقة غير هادفة لا يعودون على الصفاء الذي كانوا عليه في توالي جهادهم وصومهم. والشهادات على ذلك كثيرة من بستان الرهبان وغيره.
إذاً أيها الإخوة الأحباء، لنسمعنّ ما يقوله الروح للكنائس ليس فقط عن الصوم بل وعن كلِّ فضيلة، ولنعرضن عن نقِّ العالم الحاضر الذي ليس فقط لا يريدنا أن نصوم لأسباب تجارية واجتماعية وأهداف أخرى مستقبلية شريرة. بل لا يريدنا أن نعيش حتى الحياة الطبيعية التي أثبتت التجارب أنها الأسلم والأقوم بالنسبة لاستمرار البشرية إستمراراً طيباً بحسب وصية الله للأبوين الأولين فيما يخص الجنس البشري وجهاد الإنسان في أرضه ولأجل أرضه، ولأجل بناء مجتمع المحبة الأسلم.
فإذا كانت كلمة الأرثوذكسية، التي أخذتها كنيستنا شعاراً وعنواناً لذاتها، تعني الفكر الصحيح (الأيديولوجيا الصحيحة – الإيمان المستقيم)، وكذلك التمجيد الصحيح من خلال العمل. يقول الإنجيلي متى: “هكذا ليضيء نوركم قدام الناس فيروا أعمالكم الصالحة، ويمجدوا أباكم الذي في السموات”. الأرثوذكسية إذاً إيمان وعمل. والصوم هو سبب لإستقامة الذهن ونقائه. فارتباط الصوم بمعاني الأرثوذكسية هو تقريباً إذا جاز التعبير، أرثوذكسية تعني الصوم، والصوم الى حدٍ ما يعني الأرثوذكسية بكثير من معانيها.
ليعطنا الرب الإله أن نصوم جميعاً صوماً مباركاً مقبولاً ولنعبر صليب الصوم الى قيامتنا مشاركين الرب في سرِّ خلاصه آمين.
نشرة البشارة
08 آذار 2015