روح الشّهادة – الأرشمندريت توما (بيطار)
روح الشّهادة نسغ الحياة المسيحيّة. ما معنى روح الشّهادة؟ معناها أن يموت الإنسان عن نفسه ليحيا المسيح فيه. هذا كلام حبّ. الحبّ أن ترى الآخر فيك. أن تموت، هنا، معناه ألاّ تطلب نفسك ولا ما لنفسك، في المسيح. فإنّك إن فعلت تجعله خادمًا لك. في الحبّ أنت تستخدم نفسك للمسيح، وفي المسيح للآخر، لكلّ إنسان. هذا مفهوم الطّاعة، في عمقه، عندنا. نحن لا نطيع أحدًا من باب الرّضوخ له. في هذا قهر. نطيعه بإرادتنا. من هنا الخدمة والبذل والتّضحية الّتي من دونها، بيننا، لا معرفة للمسيح ولا مسيحيّة. الموت، إذًا، هو الطّاعة، بهذا المعنى، والطّاعة هي روح الشّهادة، وروح الشّهادة هي الحبّ!.
المسيحيّة قوامها الشّهادة. لذا الكنيسة كنيسة شهداء. وليس في الكنيسة غير شهداء. والشّهادة تقيم ما بين شهادة قطع المشيئة، على نحو متواتر، التماسَ وجه المسيح، وشهادة الدّم. الأولى تتعاطاها في كلّ حال، والأخيرة تتعاطاك بنعمة من ربّك. هاتان، في تاريخ الكنيسة، متضامنتان متكافلتان. شهادة الدّم لا تأتي إلاّ من شهادة قطع المشيئة، إلى نعمة الله، كما قلت، وشهادة قطع المشيئة تهن إذا لم يعد الاستعدادُ لشهادة الدّم ربيبَ وجدان الإنسان المؤمن. حين لا تعود شهادة الدّم واردةً لديك، نظير الكثيرين من الّذين سبقوك، ممّن يذخر بهم تقويمنا الكنسيّ، كلّ يوم، إذ ذاك لا يمكن إلاّ أن يُصاب وجدانك بالخلل. يمسي معرَّضًا لاستقرار روح هذا الدّهر فيه، وهذه تتآكله شيئًا فشيئًا، إلى أن يستأسره حبّ العالم الّذي حذّرنا ربّنا منه، لمّا قال: لا تحبّوا العالم ولا الأشياء الّتي في العالم لأنّ محبّة العالم عداوة لله.
فكرُ شهادة الدّم، كحسّ داخليّ فينا، أساسيّ لحفظ سلامة مسيرة الإيمان في حياتنا. قبول الاضطهاد، من أجل المسيح، لا بدّ منه. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضًا. في الكنيسة الأولى، التّروّض على شهادة الدّم، لا سيّما بالصّوم والصّلاة، كان الخبز اليوميّ لأبناء الإيمان. الرّعاة كانوا يعدّون المؤمنين لشهادة الدّم بصورة تلقائيّة: أوّلاً بالكلمة، بالعظة، بتبادل سِيَر الشّهداء فيما بينهم، وثانيًا بالمثال، ببذل الدّم شهادة للرّبّ يسوع. سِيَر الشّهداء لم يكن القصد منها، متى تناقلها المؤمنون فيما بينهم، سوى شحذ الهمم وتحريك النّفوس لاقتبال شهادة الدّم، في الرّوح أوّلاً، كفكرة في القلب، ثمّ في الجسد، إن ارتضى الرّبّ الإله لك أن تكون في عداد شهدائه. في هذا السّياق، كان واضحًا أنّ أحدًا لا يقدِّم نفسه شهيدًا للمسيح، من تلقاء نفسه، بل مَن دعاه المسيح. بالنّعمة أنتم مخلَّصون وذلك ليس منكم. ما قاله، ذات مرّة، المعلّم ترتوليانوس، شكّل حجر الزّاوية في حياة الكنيسة الحيّة. دماء الشّهداء؛ قال؛ هي بذار الكنيسة!.
على هذا، شكّلت شهادة الدّم أساس البنيان في الكنيسة. في مطلع تاريخ الكنيسة، كانت شهادة الدّم، ثمّ بعد ذلك، بدءًا من أوائل القرن الرّابع الميلاديّ، شهادة الدّم البيضاء، بانطلاق الحياة الرّهبانيّة، نسكًا وتنظيمًا. الحياة الرّهبانيّة هي امتداد سيرة الشّهادة في الكنيسة الأولى. لم يَخْبُ الوعي في الوجدان أنّ الشّهادة عماد الكنيسة وضامنة استمرارها. لذا بمرسوم ميلانو (312)، الّذي شرّع فيه القدّيس قسطنطين الملك، بخاصّة، وجود الكنيسة، بدأت حقبة جديدة في تاريخها. تدفّق عليها المهتدون ناقلين معهم عاداتهم وأفكارهم، ما هدّد بتمييع روح الشّهادة فيها. هذا أدّى إلى بروز الرّهبانيّة ونمائها، صونًا لروح الشّهادة واستمرارها. ثمّ الرّهبانيّة قادت الكنيسة، وبها انحفظ وجدان الرّسل والشّهداء الأوائل. النّسك، من ناحية، أمّن الاستمرار في الانقطاع عن روح العالم، والفقر والعفّة والطّاعة حفظت الارتباط الأخيري، الإسخاتولوجيّ، للشّهداء البيض الجدد بالملكوت. قول كهذا القول: ليست لنا ههنا مدينة باقية بل نطلب الآتية، استمرّ يتحقّق في سيرة الرّهبان الشّركويّة والنّسكيّة. كلّ هذا عنى أنّ استقامة الرّهبانيّة، روحًا وممارسة، باتت ضرورة، وبات ضروريًّا أن يكون الرّهبان معلِّمي الكنيسة، الرّوحيّين، وأن تكون عامّة المؤمنين متتلمذة على الرّهبان. ذبول الرّهبانيّة من ناحية، وغرق العامّة في روح العالم، من ناحية أخرى، أدّى إلى الاختلال في ميزان الوجدان الكنسيّ، وشكّل على الكنيسة خطرًا مداهمًا حتّم، إمّا انبعاث نهضة رهبانيّة، وإمّا مكابدة الكنيسة حملات اضطهاد، وسريان شهادة الدّم فيها من جديد، لتستمرّ. فلا غرو إن كان تعرّض الكنيسة لشهادة الدّم قد أدّى، أبدًا، إلى ازدهارها، كما كان كلّ اضطهاد للرّهبانيّة مسعًى، أبدًا، لضرب الكنيسة!. الشّهيد والرّاهب، في الكنيسة، عدوّا الشّرّير وزبانيته. بلاهما يبتلع روح العالم أبناء الإيمان. ولمّا كانت الكنيسة جسد المسيح وأبواب الجحيم لا تقوى عليها، فإنّ ربّك، في تاريخها، كان، أبدًا، في صدد إصلاح الخلل فيها، إمّا بإزكاء الرّهبانيّة مرّة بعد مرّة، إذ ذاك كان سلام، في الأرض، لو نسبيّ، وإمّا بالسّماح للاضطهادات أن تشتدّ على أبناء الإيمان، ليشدّ دمُ الشّهداء أزرَ النّفوس من جديد، ويروي الكنيسة بمياه النّعمة ويشحذ الهمم. بلى، في أزمنة الاضطهاد القصد هو الغربلة والتّجديد!. مَن ليسوا للمسيح يصيرون هباءً تذرّيه الرّيح، فيما يحرِّك الاضطهاد وجدان الأمم فيهتدوا، وتتجدّد الكنيسة بهم، وبالخارجين من تردّدهم فيها، وبالقطيع الصّغير الخمير الّذي يحفظ الأمانة ولا يتزحزح!.
اليوم، الرّهبانيّة موجودة، لكنّها ليست على قامة تتيح لها أن تحفظ المؤمنين. روح العالم يجتاح أبناء الإيمان. الارتداد يترسّخ ويزداد. لذا الاضطهاد على المسيحيّين يشتدّ. عدوّنا الشّيطان يزأر ويعنف. والرّبّ الإله يفسح له في المجال، ولكنْ للغربلة والتّجديد، كما قلنا. ما يحدث لا خطر فيه على الكنيسة!. الرّسالة هي أنّ أبناء الإيمان باتوا في خطر ابتلاع العالم لهم. لذا الرّبّ الإله يسمح بالاضطهاد عليهم ابتغاء التّنقية والتّقديس!. ولعلّ البعض يظنّ أنّ ربّك يتخلّى عن شعبه. هذا كلام لا قيمة له!. كثيرون يسقطون؟ هذا صحيح!. ولكن لو كان المرتدّون منّا لبقوا معنا، كما قيل!. الحقّ أنّ ربّك لم يعد في وارد قبول المتردّدين أو المتظاهرين بأنّهم له!. مَن ليس معي فهو عليّ!. ثمّ هناك تجديد حقيقيّ يحدث!. نفوس عديدة تتوب بعد خَدَر، وأمم آخذة في الاهتداء لمسيح الرّبّ!. في مجلة الـEconomist، منذ بعض الوقت، ظهرت دراسة عن نمو المسيحيّة في الصّين. ثمّة عمليّة تخمير جديدة واسعة النّطاق تجري!. هناك اضطهاد؟ طبعًا!. ولكن هناك، نتيجة ذلك، إقبال متجدّد على الكنيسة، على غرار إقبال غير المؤمنين في الأمبراطوريّة الرّومانيّة، عليها!. في الدّراسات أنّ المسيحيّين هناك، في الصّين، يزدادون عددًا وقوّة، في خضم حملات الاضطهاد الّتي يتعرّضون لها. وفي الدّراسات، أيضًا، أنّ المسيحيّين يشتدّ تحدّيهم السّلميّ لمقاوميهم، فيما الحزب الحاكم في بلبال كيف يتعاطى معهم!. أحيانًا يقسو وأحيانًا يلين!. وبين كرّ وفرّ يتواتران تنمو الكنيسة!. مصادر مطّلعة تقول إنّ المسيحيّين في الصّين عددهم الحالي بالملايين، وإنّهم، في حدود العام 2030 سيقفز عددهم إلى حوالي الـ250 مليونًا!. هذا حتّى لا نتحدّث عن التّجدّد الرّوحيّ، خلال الحقبة الشّيوعيّة، في روسيا مثلاً، والجاري، هنا وثمّة، في العالم، كمصر الأقباط، من جرّاء الاضطهاد، والعنيف جدًّا، أحيانًا!. يُهجَّرون، يُلاحَقون، يُقتَلون، يُسبَون، يُعَذَّبون؟ هذا كلّه حدث في الماضي، وقوبل بالثّبات في الإيمان والوداعة والصّلاة!. أين صارت الأمبراطوريّة الرّومانيّة في كلّ جبروتها؟ وأين أضحت شيوعيّة الاتّحاد السّوفياتيّ؟ باتت أثرًا بعد عين!. الله حيّ والمسيح حيّ، وكلّ اضطهاد هو له في المؤمنين به!. لذا بشِّر المضطهِدين بالزّوال لأنّهم أفلسوا، وقل للمضطهَدين: أيّها الأحبّاء، لا تستغربوا البلوى المحرقة الّتي بينكم حادثة لأجل امتحانكم… فإنّكم إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأنّ روح المجد والله يحلّ عليكم (1 بطرس 4)!.
ما يجري حاليًا يؤكّد أنّ المسيحيّة، بخلاف ما يظنّ المغرضون، ليست في طور الاحتضار والذّوبان، بل في طور التّنقية والتّجديد!. ثمّة شعوب عديدة في حال الفراغ والخيبة من السّياسة والدّين –والمسيحيّة ليست دينًا بل حياة جديدة- ما يجعل هذه الشّعوب في وضع المتقبّل، على نحو أفضل، لروح الله ونعمة الله ومسيح الرّبّ!. المسيحيّة الأوروبيّة أصابها الارتداد؟ صحيح!. بعض المسيحيّين أساؤوا، أمّا الإيمان المسيحيّ فعومل زورًا وتزويرًا!. والمسيحيّة تجتاز اليوم عتبة أزمتها الكونيّة، الّتي طغت فيها الإنسانويّة المجوّفة والمادّيّة اللاإنسانيّة، إلى حقبة جديدة!. ما البديل؟ ما الجواب؟ الجواب في الابن الشّاطر!. الابن الشّاطر يتهيّأ ليعود من البلاد البعيدة، إلى أبيه، على صعيد كلّ أمّة وكلّ دين!. المسيح، بعد طياشة العالم، لا جواب إلاّه!. ولو سَحَرت الإنسان، طويلاً، أيديولوجيّات عدّة وتكنولوجيا لا روح فيها، فإنّ قلب الإنسان قلق فارغ، والإنسان انحدر إلى مستوى رعاية الخنازير الفكريّة وبات دون الخنازير وضعًا!. ما العمل؟ أقوم وأعود إلى أبي وأقول لأبي، يا أبي، لست مستحقًّا، بعد، أن أُدعى لك ابنًا، اجعلني كأحد أجرائك!. فقط الأب يبقى حاضنًا!.
الأيام الرّاهنة تطلّ على مستجدّات لم تكن لتخطر ببال!. الاضطهاد يشتدّ، لكن النّعمة الإلهيّة، أيضًا، تفيض!. أكثر المضطهَدين في الأرض لإيمانهم هم المسيحيّون، لكن روح الله يفعل، اليوم، على نحو عجيب، فيهم وفي غيرهم!. أنّى يكن الأمر، فلا يستطيع أحدٌ شيئًا ضدّ المسيح، مهما فعل، بل من أجل المسيح!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
8 أذار 2015