الموت إكليل الحياة! – الأرشمندريت توما (بيطار)
بعض النّاس يظنّ أنّ الموت هو نهاية الحياة. الحقيقة هي أنّ الموت تتويج للحياة على الأرض. يحقّق الموت ثلاثة أمور: أوّلاً، يضع حدًّا للخطيئة بالجسد. ثانيًا، ما هو فاسد في الإنسان السّاقط ينحلّ. ثالثًا، يعطي الموت الإنسان أن ينتقل إلى واقع جديد بالرّوح القدس.
طبعًا، نحن نختبر الحياة بالرّوح القدس ونحن في الجسد، إذا كنّا سالكين بالإيمان والأمانة. ولكن، كما يقول القدّيس الشـّيخ يوسف الهدوئيّ، الإنسان، بالموت، تنفتح عيناه على عالم النّعمة الإلهيّة. القول المزموريّ “أخرِجْ من الحبس نفسي، لكي أشكر اسمك”(مز141: 7) يستطيع المرء، بسهولة، أن يفهمه على أساس أنّ الإنسان يخرج، بالموت، من إزعاجِ الخطيئة، وإلحاحِها، وخطرِها؛ كما يخرج، أيضًا، من سجن الفساد الّذي استبدّ به منذ السّقوط. متى انطلق الإنسان وتحرّر من الخطيئة والفساد، يقيم في النّور، يقيم في السّلام. الإنسان، متى تروّض ذهنُه على العيش بحسب الوصيّة الإلهيّة، يصبح الموت، بالنّسبة إليه، محطّة للعبور إلى السّلامة، وإلى النّور، وإلى الفرح. لهذا، السّالكون في القداسة، بعد فترة من سعيهم وجهادهم، تتغيّر نظرتهم إلى الموت. لا يستطيع الإنسان أن يقبل الواقع الجديد للموت، الّذي ترسّخ بقيامة الرّبّ يسوع، إلاّ بالنّعمة الإلهيّة. يحتاج إلى النّعمة. ولكي تقيم النّعمة فينا، علينا أن نسلك في الوصايا. علينا أن نتروّض على حياة النّقاوة. النّعمة تسكن فينا، وتقيم فينا، وتزرع فينا ناموسًا جديدًا، ونظرة جديدة إلى الأمور، وإلى الحياة. لهذا، آباؤنا يقولون إنّ الإنسان الّذي يموت من دون النّعمة، تكون حياته قد ذهبت سدًى. هناك هدف واحد، فقط، من الحياة في الجسد، على الأرض، أن يمتلئ الإنسان من نعمة الله. غايةُ الحياة المسيحيّة اقتناء الرّوح القدس. والرّوح القدس، متى سكن فينا، يغيّر موقفنا من كلّ شيء: يغيّر موقفنا من ذواتنا، من الآخرين، من الحياة والموت؛ يعطينا أن نقرب كلّ أمر بطريقة مختلفة. أهل هذا العالم لا يمكنهم، لا أن يقبلوا، ولا أن يفهموا منطق النّعمة الإلهيّة متى تَفَعَّلَت في حياة الإنسان المؤمن.
إذًا، موقفنا من الموت قابل لأن يتغيّر بالنّعمة، ويجب أن يتغيّر!. آباؤنا جعلوا علاقة واضحة بين مقاومة الأهواء، في حياتنا، واقتبال الموت باعتباره معبرًا إلى حياة تتجدّد. مسيحيًّا، بالموت، الإنسان يزداد، ينمو!. الإنسان لا ينقص، ولا يتوقّف عند الحدود الّتي يكون قد بلغها بالجسد، على الأرض. إذًا، النّظرة إلى الموت مختلفة، تمامًا، بين الّذين يؤمنون والّذين لا يؤمنون. الّذين لا يؤمنون يعتبرون أنّ الحياة على الأرض هي الحياة الحقيقيّة. الحياة بعد الموت، لهؤلاء، هي، بالأحرى، تمنّيات!. قد يكون هناك استمرار للإنسان بعد الموت، وقد لا يكون. في كلّ حال، ليست الحياة بعد الموت ليشتهيها الّذين لا يؤمنون. أمّا الّذين يؤمنون، فالحياة الأصيلة الحقيقيّة لهم هي بعد الموت. الحياة لهم، هنا، على الأرض، حياة ظلّيّة. هنا، على الأرض، يبدأ الإنسان، بالنّعمة الإلهيّة، بتذوّق الحياة الحقيقيّة!. هنا، ينال عربون الحياة الحقيقيّة!. أمّا الحياة الحقيقيّة فتُعطى له، في ملئها، بعد الموت. بإمكان الإنسان أن يفهم هذا الأمر، متى أدرك أنّ الشّهيد لا يبالي بحياته، هنا، كثيرًا. الرّسول بولس قال بوضوح: “إن كان لنا هنا قوت وكسوة، فلنكتفِ بهما” (1تيمو6: 8). وقال أيضًا: “ليست لنا ههنا مدينة باقية، بل نطلب الآتية” (عب13: 14)!. هكذا، في الحقيقة، سلك المؤمنون، أو، بالأحرى، استنار المؤمنون بالنّعمة الّتي أُعطيت لهم من فوق، فرأَوا ما لا يُرى بالعين المجرّدة!. رأَوا أنّه ما من شيء، هنا، يُشتهى، بكلّ معنى الكلمة. كلّ شيء هنا يتغيّر، وهو واقع تحت علامة الموت، موجود اليوم ثمّ يزول غدًا!. لهذا، حياتنا، هنا، على الأرض، في تناقص مستمرّ. حتّى منذ الولادة، تأخذ حياتنا على الأرض في التّناقص. هناك أطفال يولَدون في الموت!. هناك أطفال يولَدون حاملين أمراضًا وإعاقات!. إذًا، الحياة، هنا، على الأرض، حياةٌ في وضع التّناقص المستمرّ حتّى الموت. أمّا الحياة هناك، بعد الموت، فهي من نوع آخر. الحياة هناك تبدأ بالموت، ثمّ تنمو باطّراد. الحياة هناك تزداد إلى دهر الدّاهرين. الإنسان ينمو، هناك، في الحياة الإلهيّة، بصورة لا تتوقّف عند حدّ!. يسير الإنسان، بعد الموت، من مجد إلى مجد، ومن نور إلى نور أبهى، ومن فرح إلى فرح أعظم. هذه كانت، دائمًا، خبرة آبائنا القدّيسين. الرّسول بولس يقول بوضوح: “خير لي أن أنطلق وأكون مع المسيح، هذا أفضل جدًّا” (في1: 23)!. كلامه يشير، دائمًا، إلى أنّه كان يرتجي ما هو هناك، وكان يسعى لِما هو هناك. النّعمة الّتي أقامت فيه، في الجسد، على الأرض، كانت تشدّه، بتواتر، إلى الحياة الّتي هناك، إلى عِشرة الله هناك، إلى المعاينة الإلهيّة هناك!. إذا كنّا نتكلّم على الموت والحياة، على هذا النّحو، فنحن نضع النّقاط على الحروف بشأن ما حقّقه الرّبّ يسوع، وما جعلنا شركاء فيه. أمّا إذا كان الإنسان ليبقى غريبًا عن يسوع، بعيدًا عن وصايا يسوع، عائشًا في مستوى الأهواء، فإنّ كلّ الّذي أقوله يكون كأنّه بلا معنًى. صليب الرّبّ يسوع، الّذي هو أساس الحياة المسيحيّة، هو جهالة عند الأمم، وبالنّسبة إلى اليهود هو عثرة. في الحالَين معًا، الصّليب غير مقبول. الرّبّ يسوع المسيح قدّم نفسه ووصيّته وحياته على الصّليب؛ وهو يقدّمها لنا إذا ما اقتبلنا صليب الفكر، وصليب النّفس، وصليب الجسد. لا يمكن الإنسان أن يفهم. فقط يمكنه أن يقبل، إذا آمن، إذا ما اقتبل نعمة الله، الّتي تفتح عينيه الدّاخليّتين، وتجعله يبصر.
إذًا، الّذين لا يؤمنون يواجهون الموت، إلى المنتهى. لا شكّ أنّ الطّبّ يتقدّم. لا شكّ أنّ اختراعات الإنسان لمواجهة الموت، في الحياة، كلّها تتقدّم. لكن، يبقى أنّ الإنسان، في كلّ ما فعله، عبر تاريخه، إلى اليوم، لم يستطع أن يحلّ مشكلة الموت!. بعض النّاس يظنّ أنّ هذا التّقدّم ربّما كان مؤشِّرًا إلى أنّ الإنسان سوف يتمكّن، في المستقبل، من التّغلّب على الموت، بصورة نهائيّة. هذا، طبعًا، حلم بشريّ، وهو مستحيل. في مقابل هذه النّظرة التّفاؤليّة لدى العلماء والدّارسين والفلاسفة، هناك بشر واقعيّون، يؤدّي بهم الانخراط في العِلم والمعرفة وخبرات الحياة الدّنيا إلى اليقين بأنّ للإنسان حدودًا لا يمكنه أن يتخطّاها. في مقابل التّقدّم الطّبّيّ الحاصل، اليوم، يؤكّد الكثيرون أنّ الطّبّ لا يعرف أكثر من واحد إلى اثنين في المائة من تركيب الجسم البشريّ، ومن أسرار الحياة في الجسد البشريّ. وكثيرًا ما نجد الأطبّاء والعلماء يقفون مشدوهين أمام أسرار الخليقة. يقولون: “هذا ما نستطيع فعله، ولا نستطيع أكثر من ذلك”!. إذًا، الّذين لا يؤمنون يواجهون هذه المعضلة؛ ومع ذلك، لا زالوا يقاومون الموت بشراسة، والموت، في نهاية المطاف، يقوى عليهم.
بالنّسبة إلينا، إذا كنّا، فعلاً، مؤمنين، أو نريد أن نؤمن بيسوع فعليًّا، علينا أن نعرف أنّ يسوع وحده محور حياتنا، في كلّ حال. “إن عشنا، فللرّبّ نعيش؛ وإن متنا، فللرّبّ نموت” (رو14: 8)، “مجّدوا الله في أجسادكم، وفي أرواحكم الّتي هي لله” (1كور6: 20)، “إذا أكلتم أو شربتم أو لبستم، فاعملوا كلّ شيء لمجد الله” (1كور10: 31)!. يسوع هو مَن ينبغي أن ندور في فلكه. كلّ شيء نفعله حتّى نمتدّ إليه، وكلّ شيء منه نلتمسه حتّى يكون لِما نحياه على الأرض قيمة ومعنًى!. “بالنّعمة أنتم مخلّصون” (أف2: 8). نخلص من الموت، نخلص من هذا السّجن الّذي نحن فيه، الّذي هو خطيئيّتنا، والّذي يتضمّن أفكارنا ونفوسنا وأجسادنا. كلّ ما له علاقة بخطيئيّتنا هو سجننا!. الإنسان يخرج من هذا السّجن بالنّعمة، وبالنّعمة فقط!. لذلك، يسوع هو المحور، أو لا يكون لنا خلاص!. الإنسان يحاول أن ينسى، يحاول أن يتلهّى بأمور كثيرة، لكنّه سوف يأتي إلى ساعة لا يعود بإمكانه فيها، أن يهرب. لذلك، الإنسان الحكيم هو الّذي يعرف أن يُعدّ نفسه للحياة الجديدة، منذ الآن، في كلّ لحظة. نُعدّ أنفسنا للحياة الجديدة، الّتي يأتي الموت، في مسارها، بمثابة تتويج ومعبر وإكليل لكلّ ما نكون قد بذلناه من أتعاب ومن جهود. يسوع هو الّذي يعطينا، بالنّعمة، منطق الحياة الجديدة، والموقف الجديد من كلّ شيء. يصير كلّ شيء جديدًا: الوجوه تصير جديدة، الطّبيعة تصير جديدة!…. حين نرى نور الله يملأ الكون؛ إذ ذاك، نعرف أنّنا قد دخلنا في الجِدّة، الّتي شاء الرّبّ الإله أن يُدخلنا فيها. بعد ذلك، متى انتقل الإنسان، بالموت، إلى الحياة الأكمل مع الله؛ فإنّه يصير في الدّهش، يصير في الفرح.
في نهاية المطاف، سوف تأتي ساعة، يعطينا الرّبّ الإله أن نستعيد الجسد الّذي صار، هنا، على الأرض، بالخطيئة، أداة للفساد. هذا سوف نستعيده، بنعمة الله، محرَّرًا من كلّ فساد، وممتلئًا من نور الله. والجسد، هذا، هو نفسه الّذي لنا. الجسد، إذ ذاك، يصير مطرحًا للمجد الإلهيّ، يصير جسدَ المجد. هذا كلّه آتٍ علينا في هذا المسير إلى وجه الله. بعد ذلك، لو سألْنا: “متى يحدث ذلك؟”، يسقط الجواب أو، بالأحرى، السّؤال؛ لأنّنا، متى أقمنا في قلب الله، لا نحتاج، من بعد، إلى أن نعرف، كما يشاء عقلنا، “المضروب” بالسّقوط، أن يعرف. حين يكون الإنسان في النّور، يتوقّف عن السّؤال. حين يكون الإنسان في الله، لا يحتاج إلى معرفة المستقبلات. يكفيه أنّه في الله؛ والله كفيل بسوقه، بالنّعمة، من مجد إلى مجد إلى المجد، من نور إلى نور إلى النّور، من حياة إلى حياة إلى الحياة والقيامة بالجسد.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
22 أذار 2015