كلمة الاب يونس يونس في احتفال تكريم المطران جورج خضر
“المطران جورج خضر، الأب الملهِم”
(الأب يونس يونس)
عندما تمّت دعوة صاحب السيادة المحتفى به إلى هذا المحفل البهج، سأل: ما الموضوع؟ قيل له: المطران جورج خضر. فانتفض قائلاً: كيف هذا؟ هل يكرَّم بشر؟ كنت أعرف رأي سيّدنا، فهو لا يرضى بكلام على سوى الربّ. الربُّ هو الألف والياء. وهذا ما زاد من تردّدي في الكلام على قامةٍ أفضل ما تفعل أمامها هو الصمت، إذ هو أيسر، حيث لا خطر فيه. إلى أن أتاني صديق وبّخني، قال: “المطران جورج نورٌ أضاءه الروح في سماء أنطاكية، فبدّد ظلمات حالكة وأنار دروب الكثيرين. تكلّم على عمل الروح في أحبّته، فالإكرام هنا يجوز إلى الأصل”. عند ذلك هداني شجاعةَ أن أتكلّم.
تربّى صديقي هذا في بيئة علمانيّة، غير ملحدة، ولكن بغربة تامّة عن الكنيسة، إلى أن أصبح طالبًا جامعيًّا. وفي لحظة افتقاد، اقتاده الروح إلى قاعة مخفيّة، في أسفل كنيسة صغيرة، كان سابقًا يتجاهل وجودها بجوار منزله. كان باب القاعة من حديد يتآكله الصدأ، أمّا في داخلها فقلوب تتوق إلى أن تزيل صدأ قديمها، وتتجدّد بالكلمة الإلهيّة ونعمة الروح المنسكب في الكأس المقدّسة. هي تعابيرُ جديدةٌ بات يسمعها ويستطيبها فتنعشه: “الكأس المقدّسة”، “الكلمة الإلهيّة”، “نعمة الروح القدس”، “التوبة”، “النهضة”… ومع هذه كلِّها، كان هناك اسمٌ يتردّد على شفتي إخوته الجدد: “المطران جورج خضر”. ما من اجتماع أو لقاء أو نشاط لم يكن حاضرًا فيه، إن بتعليمه أو سلوكه. بات صديقي، قبل أن يعرفه، يحبّه ويوقّره.
سأل عنه مرة أباه الذي، بحسب تعبير المطران جورج في تأبينه، أتى من يسوع الناصريّ لأنّه جاهد في سبيل الفقراء والمكدودين والمسحوقين في الارض. فقال له أبوه: “جورج خضر رجل صادق، فهيم، صاحب مبدأ، لا يتاجر بدينه”. هي المرة الأولى التي سمع فيها أباه يتكلّم بإعجاب وتقدير عن “رجل دين” أيًّا كان، مسلمًا أو مسيحيًّا. هذا من تأثير المطران جورج في الذين في الخارج.
راحت معرفة صديقي بأسقف كنيسته تتوطّد شيئًا فشيئًا بسبب الكلام الذي يسمعه من الإخوة الكبار، ومن قراءة نشرة رعيتي وبعض الكتب التي وُضعت بين يديه. أصبح اللقاء حاجة مطلوبة بل ضروريّة، وتمّ في صبيحة يوم الربّ. لا يمكن أن ينسى ذلك القدّاس الإلهيّ. كان أسقف الجبل يقرأ من كتاب الكهنة، لكنّه كان كمن ينحت الكلمة نحتًا، يحرّك شفتيه لكنّ الكلام يصدر من داخله، من قلبه. كان يصلّي كأنّه في مكان آخر، قل في مكان أبعد، هنا وليس هنا. أين يصلّي هذا الرجل وأمام من يرتجف ويَدمع… “يا معلّم حسنٌ أن نكون ههنا” (لو 33:9). كلّ ما قرأه صديقي لاحقًا حول الليتورجيا والعبادة والصلاة وكيف يدخل الإنسان في شركة مع الله، وكيف أنّ الصلاة غذاء للإنسان وبهجة للروح، كان سهل القبول والإدراك لأنّه سبق له أن صلّى بإمامة هذا الشيخ.
جذّاب سرّه في إنشاده وقراءته ووعظه. وعظُه! ما هذا السلطان، ما هذه الحلاوة! من أين ياتي هذا الكلام الذي لم يسبق لك أن سمعت مثله. يثبّت صديقي نظره على هذا المارد المتكلّم، فيراه يتطلّع، بين الفَينة والأخرى، إلى فوق، إلى ذلك المكانِ الأبعدِ عينِه. كان كأنّه يسمع ثمّ يتكلّم. هل هنالك من يلقّنه الكلمات؟ هل الدنيا تمطر كلمات؟ ثم يقول صديقي في نفسه لماذا أنت مأخوذ هكذا في هذا التعليم الذي يفضحك، ويكشف صدأك وتفاهتك. فَهِمَ قبل أن يقرأ في كتاب الحياة “أنتم الآن أنقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به” (يو 3:15). أُدخِلَ في سرّ الكلمة الصادقة، الفاحصة، المنقّية، المحيية. فأصبح الكلمةُ غذاءً دونه الموت.
كُشفت له خبرة الآباء القديسين الكبار بأنّ “هذه المائدة التي في وسط الكنيسة تعني، عند العالِمين، المحكمة. هذه محكمة المسيح الذي سيَدين الناس. وإذا انتصبتَ أنت مع المؤمنين أمام المائدة فلكي تُحاكَموا، ليس في اليوم الأخير فقط، ولكن صبيحةَ كلّ أحد… الله جِدّيٌّ كثيرًا، ووَضَع أمامك الإنجيل لكي يحاكمَك هنا حتى لا تحاكَم فوق. ووَضَع الكأس المقدّسة على المائدة لكي ترتجف وأنت تقترب إليها” (اذكروا كلامي، ص. 200).
وتوالت اللقاءات، وكان الوجه يزداد إشراقًا والظلمات تنقشع، وكثرت القراءات وكان المَعين لا ينضب ولا يعتَق، إلى أن قرأ صديقي في نشرة رعيتي: “نريد طلاّب لاهوت” (رعيتي، العدد 19، السنة 1993). توقف كثيرًا عند عنوان مقالة راعي الأبرشيّة قبل أن يقرأها. سمع صوتًا يقول له إنّ المطران لا يخاطبك أنت، جامعتك تنتهي بعد أيام معدودة وفرص العمل في الخارج مفتوحة أمامك. عاد فجأة إلى تفاهته، وأجّل إلى الغد عمل اليوم. سافر وحمل معه جواهر ثمينة أتته من كاهن رعيّته، الذي الكثير من قلبه ومن عقله يجيء من المطران جورج: إنجيل، كتب صلوات وكتب أخرى معظمها يحمل توقيع جورج خضر.
بعد أقلّ من ثلاث سنين عاد ملاك الأبرشيّة، الذي يأتي من ثبات المسيح الذي لا يعرف يأسًا، ينادي أبناءه في نشرة رعيتي: “نحن بحاجة إلى طلاّب لاهوت” (رعيتي، العدد 27، السنة 1995). سمع صديقي صوت الله من جديد: إلى اين تهرب يا يونان؟ ترك العالم ليعود إليه من باب آخر، من رحاب تلك القاعة في أسفل الكنيسة الصغيرة. وعادت القاعة بطنًا له. ولقي هنالك تشجيعًا واصطحبه إلى المطرانيّة كاهن رعيّته، كبير إخوته الذين بات شريكهم في الحياة الجديدة.
كانت المرّة الأولى التي يُعطى له فيها أن يجلس على شرفة النعمة المشعة بنور يأتي جنوبًا من الشمس وغربًا من سيّد الدار. أفكار كثيرة أخذته، لماذا تندهش من بساطة الدار وسيّدها؟ لماذا تتفاجأ بشعورك أنّك تجلس في مكتبة؟ ألم تقرأ في أرض الغربة سيرة القديس باسيليوس الكبير وكيف باع ذهب مطرانيته وعاش فقيرًا من المال غنيًّا بالنعمة؟ ألم تقرأ أنّه في أثينا ما عرف سوى طريق الجامعة وطريق الكنيسة. هكذا يكون رؤساء الكهنة، أو هكذا يجب أن يكونوا.
ينقلك المطران جورج دائمًا إلى مكان أبعد، في الصلاة يرفعك؛ في شرحه ومواعظه يجعلك تغوص إلى أعماق نفسك لتغسلها بالكلمة الإلهيّة؛ في مجالسه يعطيك أن ترى نفسك في حضرة عظماء كباسيليوس الكبير وإغناطيوس الأنطاكي ويوحنّا الذهبيّ الفم وغيرهم؛ وفي سلوكه وأحاديثه العفويّة يعرّفك إلى هامات نسكيّة كبيرة مثل سيسوي ومريم المصريّة. هؤلاء يحملهم المطران جورج على كتفيه ويأتي بهم إليك.
يخجل صديقي، بعد أن أصبح الآن كاهنًا، إذا استسلم مرة للتعب. ألا تتابع نشاط المطران؟ لا يعرف الرجل الراحة، لا يغيب عن خدمة أو صلاة، لا يرفض مقابلة إنسان أكان في وقت مناسب أو غير مناسب. لقد جالسه مرات عديدة طالبًا مشورة أو تشجيعًا أو شاكيًا متاعبه، والتعب والألم ظاهران على جسد المطران، ولكنه ما ردّه مرة أو جعله يشعر بأن الوقت غير مناسب.
ألا تراه لا يتعب من الصدمات تأتيه من خارج الكنيسة ومن داخلها أيضًا؟ هل نسيت كلامه الذي خاطبك به أنّ “الكاهن الحسّاس، المؤمن، العميق يتعب”. ألم يخبرك بأنّك في الكنيسة سوف تأتي “مرّات تحسّ أنّك وحدك، أنّهم عزلوك، وأنّهم ليس لهم صبرٌ عليك”. ألم يرشدْك إلى أنّ “لك تعزيات إذا عرفت أن ترتمي على صدر المعلّم وأن تسمع نبضات قلبه، وأن تمتلئ من هذه الكلمات التي لا يسوغ النطق بها”. إنهض من تعبك، واثبت في الحق، واذهب إلى من كُلّفت بهم وقل لهم ما علّمك إياه: “ها قد سمعتُ الكلمات من فوق، خذوها إذا أردتم أن تحيَوا، واتركوها إذا آثرتم أن تموتوا”. (اذكروا كلامي، ص 357 – 359).
تعرّف صديقي إلى وجوه كنسيّة كثيرة ولكنّه كان دائمًا يسأل نفسه هل يصحّ أن ترى الكنيسة كلّها قائمةً في شخص. ارتاح باله عندما تعلّم أنّ واحدًا من الآباء الكبار، الذين حفظوا استقامة الرأي، قال ما معناه: “أنا الكنيسة”. الكنيسة ممكن أن تكون قائمة في شخص وجهُه يبقى منارة متلألأة إذا ما أظلمت الوجوه.
سيّدي، آن أوان طلب المغفرة، لا لأني قلت ما قلت، “فهل أنت بحاجة إلى أن تبرّر قولك إنّك تبصر الشمس بضيائها” (وجه ووهج، ص. 10)؟ أطلب المغفرة لأنّك أبًا وملهمًا علّمتنا أنّ شأننا أمام الضوء أن نَنْشُدَ التوبة، أن نستدرّ المغفرة. فزِدْ ضياءً.