الفضيحة!- الأرشمندريت توما (بيطار)
النّحلة تبحث عن الأزهار
والذّبابة عن الأوساخ!.
القدّيس بائيسيوس الآثوسيّ
عالمنا، اليوم، بات، إلى حدّ بعيد، يبحث عن الفضيحة ويخترعها ويستلذّها!. لا شيء، في عالم الآلة، راهنًا، يحرِّك الأحشاء ويثير الاهتمام، أكثر من الفضيحة، وترويج الإشاعات، ضمنًا!. يستهجنونها، ظاهرًا، وبها، في آن، يستمتعون!. يعطونك الانطباع أنّهم غيارى على الحقّ والأخلاق ويرومون البنيان، وهم الشّامتون المتشفّون!. قديمًا، كان النّاس، بعامّة، في الموبقات، يَستترون ويُستر عليهم. اليوم، باتت الخطيئة وقحة، تُشرِّع وجودها، بمعنًى، بالمناداة بحرّيّة الفساد وبإثارة الفضيحة!. وتعمل على منع محاكمتها باعتماد منطق عجيب: لِمَ تدينونني ولا تحرِّكون ساكنًا حيال فلان أو فلان!. كأنّ للخطيئة حقوقًا، باسم العدل والمساواة، وتُناطح وتهدّد، وتتعاطى الأمر وعكسه، كأنّهما سيّان،
رذائلَ وشبهَ فضائل معًا، بلا عقل ولا قلب ولا حسّ!. ومتى أقامت في الكنيسة، في المحسوبين مؤمنين، جعلتهم يتلبّسون بالتّقوى وينكرون قوَّتها، محبِّين اللّذّة أكثر منهم الله، صلفين، متكبِّرين، شتّامين، عاصين، لا وُدَّ لهم ولا وفاء، نمّامين مُفرطين شرسين أعداء الصّلاح (1 تيموثاوس 3)، يطالبون بالرّحمة لا ليتوبوا بل ليتمادوا في غيِّهم!. في غمرة هذا التّحوّل الحادّ في النّفوس، تأتيك وسائل الإعلام والاتّصالِ المزعومةِ اجتماعيّةً، لتزكِّي الخطيئة وتفتح أبواب الفضيحة على مصراعيها، نمًّا وسُمًّا وعمًى، حتّى لا يعود أمام الفساد والفاسدين والمفسِدين عائق!. ناسٌ يستعملون هذه الوسائل بأذهانهم الباطلة، ووسائل تشيع الزّيغَ في النّفوس تحت شعار التّواصل!. بها ينتفخ التّفهون ويشعرون أسيادًا، ويكتشف ذوو اللّسان الغيّ كأنّهم “موهوبون”!. طبعًا، تبقى الوسائل وسائلَ، أدواتِ مثمّناتٍ ومكبَّ نفايات، في آن معًا، لكن أكثر المنتفعين منها هم المظلمو القلب، الضّامرو الحسّ، إذ توهمُهم أسلحة الإعلام، الميسَّرة لهم، بأنّهم طوال القامة وهم الأقزام، وأنّهم الرّجال لأنّهم سلّيطو اللّسان، وأنّهم المعلِّمون وهم الضّحلون!. العالم التّفِه، بامتياز، تناسبه وسائل تشيع التّفاهة بامتياز!.
وبعد ذلك، يغمزون من قناة أحدهم الآخر، ويتضاحكون، ويتهكّمون، ويسخرون ويمسخون التّقى ويعهِّرون الحقّ ويسايرون الباطل ويتسايرون في المفاسد ويكذب أحدهم الآخر ويصدِّقون، فيستقرّ الشّيطان في عقولهم ويستوطن قلوبهم، وله، كلّ يوم، فيهم، عربدات تلو العربدات، حتّى استحالت الأرض مرسح جنون ومجون، وما يبالون!. في أعماقهم أنّهم وُلدوا اتّفاقًا ولو قالوا بالإيمان، وإيّامُهم مرورُ ظلّ؛ وقالوا، نتمتّع بالطّيِّبات الحاضرة، ولا تفتنا زهرة الرّبيع؛ لنكمن للبارّ فإنّه يضايقنا ويقاوم أعمالنا!. حتّى منظرُه ثَقُل علينا!. أمسينا في عينيه شيئًا مزيَّفًا!. فلنمتحنه بالشّتم والتّعذيب، فإنّه سيُفتقد بحسب أقواله (الحكمة 2)!.
في خضمّ الانحلال الحاصل، وفي مناخ استطياب الفضح والتّفاضح، أطلّت علينا، منذ بعض الوقت، فضيحة كاهن الشّمال، عندنا!. أنلوم مَن وراء الإعلام لأنّهم أذاعوا المفسدة، أم الكاهن الضّحيّة لأنّه وقع فيها، أم “الكنيسة” لأنّها اكتفت باتّخاذ تدبير اقتصاصيّ في حقّه؛ ولمّا انفضحت قضيّته، غسلت يديها وقالت: هذا كاهن مقطوع عن الخدمة، ونحن لسنا مسؤولين عمّا اقترف؟!.
قديمًا، كانت حجّة الآباء المدافعين (القرن الثّاني بخاصّة)، لدى الأباطرة والحكّام المسعورين على المسيحيّين، أنّ المؤمنين بمسيح الرّبّ مواطنون صالحون، ليس فيهم سارق ولا قاتل ولا زان؛ للسّلطة يُكرِمون وللقوانين يراعون وللضّرائب يؤدّون؛ أمناء للدّيار، كرماء، لطفاء، ودودين!. وبعدما تقدّمت السّنون، وجرى اقتبال الكنيسة، شرعًا، منذ القدّيس قسطنطين الكبير، جعل آباء الكنيسة شرائع تضبط سلوك المسيحيّين بلا تثريب، لتبقى كنيسة المسيح عروسًا لا عيب فيها!. واهتاج الغيارى وأقاموا الدّنيا وما أقعدوها لمّا حسب بعض المتنفّذين أنفسهم فوق القانون، وعبثوا، فكانت لأحبّة الله اعتراضات عنيفة في وجه الكبار حتّى لا يستكبر أحد على حقّ الإنجيل، ولا تتطبَّع المفاسد، وتتفشّى، ويمسي المقامون على الشّريعة، بخلاف الشّريعة، ذريعة لتفلّت العامّة من الشّريعة!.
على هذا، اهتمّت الكنيسة باختيار نخبة الفاضلين رعاة، ليكونوا للخراف قدوات صالحة، ويحرصوا على تأديب المحتاجين إلى تأديب لئلاّ يموت هؤلاء بخطاياهم ويؤخذ الرّعاة بجريرتهم لأنّهم لم يؤدّبوهم، على قولة حزقيال النّبيّ (الإصحاح 3)!. والتّأديب لازم وإلاّ لا رحمة!. هو علاج، وكلّ مبتلى بخطيئة يلتمسه، ولا يُخفي علّته لئلاّ يهلك!. الحكيم، متى أسقطه الشّرّير في خطيئة، يصرخ الآباءَ جراحَه أن “ليؤدّبني الصّدّيق برحمة ويوبّخني، أمّا زيت الخاطئ فلا يُدهن به رأسي”!. زيت الخاطئ هنا زيت إبليس!. نفضح الخطيئة، فينا، للطّبيب، إذًا، حتّى، بنعمة الله وعون الآباء، تنحلّ قوّتها!. ويل للطّبيب إذا لم يطبِّب بالأمانة، وويل للمريض إذا لم يأته صاغرًا مطواعًا!. ما همّ أن تخدع سواك بصورة عنك تمكيجها لتبدو برّاقة؟!. أما يعرف ربّك حالك؟ إلى مَن تؤدّي حسابك في اليوم الأخير؟ أليس خيرًا لك أن تُظهر عورتك لمَن يَرفق بك، هنا والآن، ويبكيك ويصلّي عليك، حتّى تبرأ، من أن تُكشَفَ مفاسدُك، أمام الملأ، في ذلك اليوم، ولا يعود مَن يعينك لأنّ نفسك تكون قد تكلّست بخطاياك؟!.
في الكنيسة، واحد يخطئ، والكلّ يقيمون في الصّلاة تائبين عليه كأنّ خطيئته خطيئتهم!. مَن يعرف بخطيئة سواه ولا يبالي بها إنسانٌ دنس، ولو أقام في الصّوم والصّلاة، منتظِمًا!. ومَن يعرف خطيئة غيره ويشمت به إنسان نجس، مهما بدا تقيًّا!. ومَن يدري بخطيئة الآخرين ويشتهي لهم الأذيّة، لن يغادر شرّ الخطيئة بيت نفسه!. أخي هو حياتي، فإن نبذتُه خسرت خلاصي!.
نحن، اليوم، بإزاء أزمة إيمان كبيرة!. لماذا لم يَطلب ذاك الكاهن البرء؟!. إذا كان غير مؤمن فعليًّا، يوقَف عن الخدمة ويُعمَل على تبشيره ويُتابَع!. فإن استجاب، بعد حين، كان خيرًا، وإن لم يستجب يُطرد من الكنيسة لأنّه دخيل عليها أصلاً!. ليست الكنيسة مطرحًا للمنتفعين العابثين!. وإذا طغاه الشّيطان يُحتضن بالصّلاة والرّعاية باطّراد!. فإن تاب وكفّر كان خيرًا، وإن استبان مستخِفًّا متهتِّكًا، يُقطَع إلى حين، وإن استمرّ لا مباليًا مهذارًا، يُقطَع نهائيًّا!. لا يُترك خادمٌ في الكنيسة معتلاً، ولا يُصدَّر، إلى أبرشيّة أخرى، وهو مبتلًى بخطيئة معثِرة، نفيًا له عن الأنظار!. مَن يصدّر الخطايا، وما يداوي أصحابها، كمَن يروِّج المخدّرات ويترك ضحاياها يترنّحون بين الحياة والموت، وما يبالي بهم، بل بما له هو!.
القفير الّذي لا يتصدّى لِعلله، لا يلبث أن يخرب!. يهجر مَن يهجر من النّحل فيه ويموت الباقون!. هكذا الكنيسة تداوي ذاتها بذاتها وتنظّف نفسها بنفسها!. هذه شيمتها، وهذه محبّتها!. وإلاّ ويل للقائمين فيها والمقامين عليها!.
إذا لم تبدأ النّقاوة والتّنقية بالمتقدّمين في القوم، فعبثًا نبحث، في الزّمن الرّديء، عن نقاوة بين المبتلين بالتّجارب، من العامّة!. الميل عند الفاسد أن يغضّ الطّرف عن الفاسدين، أو أن يكتفي من إصلاحهم بالكلام الملق!. في هذا الأمر يكون كاذبًا وفي ذاك مستهترًا!.
ما هذا الكلام، أنّك إذا ما تصدّيت للمفاسد تهدِّد الرّعيّة بالقسمة؛ لذا تؤثر التّسويف والمماطلة واللّفلفة حتّى تموت المفاسد من ذاتها بمرور الوقت ونسيان النّاس لها؟!. المفاسد برسم المعالجة، ولا تُشفى إن سيَّبتها!. تبقى تقضّك حتّى تقضي عليك وعلى أولادك وأولاد أولادك، إلى جيل بعد جيل؛ فلا يثبت ذِكرٌ لمسيحك في مَن تسمّوا باسمه، فيما بعد!. ثمّ عن أيّة قسمة نتحدّث؟!. النّاس عن النّاس؟!. القسمة عن الله، هذه هي الهمّ ولا همّ إلاّها!. إن تكن إلى ربّك تحفظْ وحدةَ كنيسته، ولو لم تبق إلاّ حفنة من المؤمنين الأمناء فيها!. يجتمعون إلى مسيح الرّبّ، بالرّوح والحقّ، فيثبتون واحدًا، أو يتفرّقون، كلّ إلى خاصّته، ويبيدون، ما دامت لا تجمعهم إلاّ مصالحهم ولياقاتهم واجتماعيّاتهم ونصوصهم وطقوسهم!.
الفضيحة؟ هذا تأديب يمين العليّ عسانا نرعوي ونتوب ونصلح السّيرة!. لا نشاء أن نداوي المجروح وننظِّف البيت؟!. إذن، نتحمَّل النّتائج!. نقرأ ما يجري بمخافة الله ونتجدَّد، أو يكون لنا كلام الله دينونة!. ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد!. الآتي على مَن لا يتّعظ أفظع!. أخشى أن يكون ركبُ الفضائح مقبلاً عدْوًا، ولا سبيل إلى اجتنابه إلاّ بالتّوبة والصّلاة والتّأديب، على رجاء أن تكون لنا رأفةٌ من العليّ وشركة في قيامة السّيِّد!.
إذا سكت أهل البيت فالحجارة، في الخارج، ستصرخ لا محالة!. الله يمهل ولا يهمل!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
29 أذار 2015