أقوم أذهب إلى أبي! – الأرشمندريت توما (بيطار)
إمّا أن يكون الحقّ فيك أو لا يكون، فإذا كان فيك فلست بحاجة إلى إثبات، وإذا لم يكن فيك فالإثبات لا ينفع!. الحقّ بديهة. الحقّ إثباتُه فيه، لذا لا تبحث عن دليل عليه!. ثمّ إذا لم يكن الحقّ فيك فعبثًا تبحث عنه في سواك. وإذا كان عند سواك، وليس عندك، فلا يمكنك أن تراه فيه مهما حاولت!. ما أنت عليه تراه في سواك!. فمَن كان الحقّ فيه رآه في النّاس دون الباطل، ومَن كان الباطل فيه رآه في النّاس دون الحقّ!. ألم يُقل: المحبّة تصدِّق كلّ شيء؟. على هذا، مَن كانوا في الحقّ، تعاطوا الحقّ فيما بينهم، ومَن كانوا في الباطل تعاطوا الباطل!. الأوائل لا يمكنهم إلاّ أن يَصدقوا، والآخرون لا يمكنهم إلاّ أن يكذبوا!. أمّا إذا التقى الحقّ والباطل في نفس، فالواحد يكون في معرض الآخر!.
والحقّ ذو طبيعة نورانيّة!. لا حاجة للمبصر لأن يُقنع المبصر. لكليهما النّور بديهة!. وما يبصرانه واحد!. أمّا الأعمى فعبثًا تحاول إقناعه بما تبصر. هذا إذا اقتصرتَ، في أسلوبك، على الإقناع. فقط، في حال واحدة تجعله يبصر، إذا صدّقك، إذا وثق بك، إذا آمن على كلمتك!. ساعتذاك، ما ليس موفورًا لديه تنقله إليه بما هو مشترك بينك وبينه!. يرى ما تراه ولكن بأذنيه، بمنخريه، بلسانه، بيديه…! ثمّة نور داخليّ، يعتور الإنسان كلّه، يخرج من القلب!. فمَن اجتمعوا في مستوى القلب، في مستوى الكيان، سرى النّور الّذي لدى أحدهم في الآخر؛ صاروا واحدًا، في الرّوح، في الحسّ العميق!. للنّور مصدران، واحد داخليّ والآخر خارجيّ. النّور الدّاخليّ فينا غير مخلوق، وهو من الّذي هو نور العالم؛ وفيما النّور الخارجيّ مخلوق، لكنّه من المصدر عينه!. فإن تعاطى المؤمنون النّور الّذي من فوق فيما بينهم، فإنّهم متعاطَون، لا محالة، ما كان النّور الخارجيّ من أجله، خَلْقًا!. في الخليقة وحدة تنبع من الخالق الواحد. كلّ يخرج منه وكلّ يؤول إليه!. هذا واقع كلّ إنسان، وواقع النّاس في تعاملهم فيما بينهم!. هذه حقيقة الحقّ!. الحقّ يسري بين النّاس نورًا إذا ما كان لهم إيمانٌ بالحقّ فيما بينهم!.
كلّ كلام الرّبّ يسوع وأعماله وآياته كان بقصد أن نؤمن به، أن نصدِّقه، أن نثق به!. لا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا!. الله تنازل ويتنازل أبدًا لكي تكون لكلّ إنسان، حيثما كان، وفي أيّ حال كان، فرصةٌ كاملة لأن يؤمن!. يتكلّم لغتنا!. يلامس حاجاتنا!. لا ينفكّ يحتفّ بنا!. بغيته أنْ أعطني قلبك، حرًّا، يا بنيّ!. مقاربته لنا التماس!. لا يُفرَض الحبّ ولا يُغتصَب!. ثقة النّاس بالنّاس هكذا يقتنونها!. تعالَ وانظر!. لذا الإيمان من طبيعة الإنسان!. لا علاقة حقّ لإنسان بإنسان إلاّ بالإيمان، ولا علاقة بالخليقة، وبالأَولى، بالخالق!. من هنا إصرار الرّبّ الإله على أن يومن النّاس به!. ومتى آمنوا به، متى صدّقوه، متى وثقوا به، متى ارتاحوا إليه، متى انفتحوا عليه، فإنّ حقّه، إيّاه، يدخل إليهم، يقيم فيهم حبًّا!. يبقى يدقّ بكلّ ما يحدث لنا ومن حولنا، وما نقرأ وما نسمع حتّى نفتح له باب القلب، بالإيمان، إذ ذاك نبصر ما هو يبصره، نرى ما هو يراه، نعرف ما هو يعرفه!. بالإيمان يلجنا روحُه، يستقرّ فينا، يحمل اللهَ إلينا!. الحقّ روح، لذا بروح الحقّ نعرف الحقّ، نعرف الله، نعرف الحبّ في الحقّ!. الله أعطانا نفسه بالكامل؛ ملؤه انفتح علينا، روحه انسكب فينا بلا قياس؛ لكيما إذا ما انفتحنا عليه نتّحد به، نصير إيّاه، في الرّوح والحقّ، دونما اختلاط ودونما تشويش!. يبقى هو هو ونحن نحن، ومع ذلك نصير واحدًا وإيّاه في الرّوح والفعل!. البشريّ، إذ ذاك، يتألّه، وما للّحم والدّم يتروحن، كما أنّ ابن الله تأنسن وتجسّد!. هو سلك الطّريق من فوق إلى تحت لكي نسلك نحن الطّريق من تحت إلى فوق!. نزل لنصعد!. اتّخذنا لنتّخذه!. فتح لنا، بجسده، الطّريق إلى روحه، حتّى، بجسده، نستقرّ في روحه، فيه، في شخصه، في محبّته!.
يبدأ المسير بالكلام ويكتمل بالصّمت!. الكلام لغة النّاس، لذا كان ابن الله إلينا الكلمة!. كلّمنا!. فيما الصّمت الإلهيّ لغة الملء!. لذا كلّما عرف الإنسان الله، واستغرق في معرفته، كلّما عزف، بالأكثر، عن الكلام!. يمسي الصّمت أبلغ، إذ يَمضي الكلام قدُمًا باتّجاه صمت الله!. لا فقط الثّرثرة لا تليق بالسّائرين وراء السّيّد، بل الكلام، أيضًا، شيئًا فشيئًا، يمسي كبقبقات الأطفال!. طَلبتُه فما وجدته. تجاوزت الحَرَس (النّاموس) قليلاً فوجدت مَن تحبّه نفسي. أمسكته ولم أُرخِه حتّى أدخلتُه بيت أمّي (حشاي، قلبي). أحلّفكن، قالت العروس، في الخدر السّماويّ، ألاّ تيقِّظن ولا تنبّهن الحبيب حتّى يشاء (نشيد الأنشاد 3)!. لمّا كنت طفلاً كطفل كنت أتكلّم وكطفل كنت أنطق وكطفل كنت أفتكر، ولكن لمّا صرت رجلاً أبطلت ما للطّفل (1 كورنثوس 13)!. المبتغى أن أصل إلى أن أَعرف كما عُرفت!. لذا أتمرّس، كلّ يوم، على الثّقة بالله!. أصنع الوصيّة تمثيلاً، ولكن بصدق، كمَن يؤدّي دورًا، فلا ألبث أن أتمثّلها!. لا أنسى ذاك الممثّل المتهكّم، برفيريوس، الّذي مثّل دور المعتمِد، وسط صفير الجمهور؛ حتّى هذا اخترقته النّعمة رغمًا عنه، فخرج من الماء معترفًا بإيمانه بيسوع، وقُتل على الفور!. هذا أتى من الكذب إلى الحقّ، فكيف إذا أتيتُ من الصّدق إلى الحقّ؟!. النّعمة، إذ ذاك، تكمّلني!. أليس هكذا ينشأ الأطفال؟ كيف يتعلّمون؟ يقلِّدون الكبار ثمّ يتقلّدون ما ينقلونه عنهم!. يردّدون، بصدق، ما يسمعون، وما يرون، وبعد ذلك ينزل عليهم، أو بالحري، يتحرّك فيهم روح الفهم، فيصيرون ما حاكَوه!. هكذا نحن، بإزاء الكشف الإلهيّ، نبدأ أطفالاً لنكبو، ومن ثمّ، لنكبر صغارًا في الرّوح!. إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السّموات!.
القيامة، اليوم، هي أن نقوم إلى مَن قام من بين الأموات، لكي يقوم هو إلينا، بروحه القدّوس!. هكذا قام السّيّد وتلاميذه إلى لعازر الّذي أقام في القبر أربعة أيّام!. كلٌّ مقيمٌ في قبر نفسه، منذ الطّفوليّة، والسّيّد يأتيه في المعموديّة ليقيمه إلى حياة جديدة، بالماء والرّوح!. لكن المسير، بقوّة المعموديّة، هو إلى وجه السّيّد، أبدًا!. نقوم إليه، يومًا بعد يوم، ما بقي لنا يوم في هذا العمر، لنكبر إلى رجولة الأطفال في الرّوح!. لكن القيامة، باطّراد، إقامةٌ في صمت الله، في الشّكران، في الذّهول، في الدّهش، في معرفة الحقّ، في المعرفة الحقّ!. عبدك، اللّهمّ، يسمع!. جعبة الكلام، لديّ، تفرغ، وأنا إليك، أتهذّب بصمتك، بمرآك، بنورك!. يكفيني أن أقف قدّامك، لديك!.
سمعان، يا سمعان، ماذا قلت؟ الآن أطلق عبدك… عيناي أبصرتا خلاصك… نورًا لاستعلان الأمم!. متى تراني تأتي إليّ، ربّاه، لتستقرّ بين ذراعي كياني، إذًا لامتلأ كوني، لاكتمل، لاكتملتْ قيامته إليّ!.
كلّما مرّ عليّ فصح، ألقاني وقد عبرت صحراء جديدة!. لا أعرف ماذا يجتمع فيّ من جرّائها!. يكفيني، إلهي، أنّك أتيتَ بي إلى هذا اليوم!. هذا، لا شكّ، حمَل إليّ غرْفًا من طيب وجهك، وإن كنتُ غبيًّا، لا أعرف سوى أنّي إليك!.
جيّد، ربّاه، أن نكون ههنا، قال بطرس، وهو لا يدري ما يقول!.
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
12 نيسان 2015