قلبُ القيامة قلبٌ!. – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Wednesday April 29, 2015 104

قلبُ القيامة قلبٌ!. – الأرشمندريت توما (بيطار)

القيامة الحقّ هي أن تتّخذ، برضاك وبيقين كامل، صليب مسيحك، مسرًى لحياتك. صليبك، والحال هذه، هو قيامتك!. تحمله، متّبعًا المعلّم، كلّ يوم، أو لا شيء تكون!. به كان كلّ شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كُوِّن!. ما بين الأمرين لا يعدو كونه أوهامًا ملوّنة، حياةً برسم الإنقضاء!.

kYAMAلعلّك تحسب، في هذا الإطار، أنّ ثمّة حدًّا بين الصّليب والقيامة، هنا، بين الموت والحياة، وأنّ الصّليب موت فيما القيامة هي الحياة الجديدة. هذا، روحيًّا، غير صحيح!. صليبك قياميّ وقيامتك صليبيّة، لا بمعنى أنّ الصّليب يفضي إلى القيامة وأنّ القيامة تأتي من الصّليب؛ هذا صحيح، طبعًا، ولكن ليس هذا فقط. صليبك، في آن، يأتي من قيامة!. الصّليب مغمّس ومبطَّن بالقيامة!. ما لم تعرف القيامة، أوّلاً، ما لم تذقها في كيانك، يستحيل عليك أن تحمل صليبك، أي صليب مسيحك!. وحدها القيامة تمدّك باليقين أنّ الصّليب هو الطّريق والحقّ والحياة!. صليب المسيح هو المسيح المصلوب النّاهض من بين الأموات!. إذًا، يقينك، في هذا الشّأن، ينزل عليك من فوق!. ليس هو من البَشَرة!. هو من الإيمان بيسوع!. وبلا يقين لا طاقة لإنسان على اقتبال الصّليب!. ربّما يموت أحد في صراعه من أجل البقاء!. طبعًا، للطّبيعة البشريّة فعلُها في هذا السّياق. أمٌّ تلقي بنفسها في النّار لتنقذ مولودها!. أبٌ يلقي بنفسه في الماء لينقذ ولده الغريق!. ولكنْ، أن يُلقي أحد بنفسه على صليب المسيح، طوعًا، شيء آخر تمامًا!. إذا ما تُرك الأمر، بالكامل، لقناعة الإنسان وخياره البحت، فإنّه لا يختار الصّليب!. هذا فوق طاقة الإنسان!. طالما كان القرار عقليًّا، مرتبطًا بالإمكانات والاحتمالات، فلا يمكنه أن يصل إلى حدّ اليقين!. يبقى في حدود الجهالة والعبث، أدنى إلى لعبة الرّوليت الرّوسيّة، ضربًا من الجنون المطبق!. لذا، فقط إن تذق القيامة تلتزمِ الصّليب!.

طبعًا، ليست القيامة، في عمقها، حَدَثًا أو تجريدًا، ولو صحّت مقاربتها، وضعًا، كتاريخ أو كفكرة. ولكنْ، قبل ذلك، وأصل ذلك، أنّ القيامة روح وحياة!. لذا مركز القيامة القلبُ، وعمل القلب الحبّ، والحبّ هو الرّوح والحياة!. التّحديد الوحيد، المعطى لنا، بالكشف، لجوهر الله، هو المحبّة!. لذا، بالقيامة تستقرّ محبّة الله في قلوب العباد، بحيث يصير تعاطي المحبّة تعاطيًا للقيامة!. المحبّة، وجوديًّا، هي القيامة!. فمَن أحبّ، بمحبّة الله، قام من الخطيئة، أي من اللاّمحبّة، ومَن قام، بقيامة المسيح، أحبّ لا محالة بمحبّته!. بالقياس عينه مَن لم يحبّ لم يَقُم، ولو قال بالقيامة!. القيامة لديه، إذ ذاك، فلسفة كلام في الهواء وخطوطٍ على ورق!. معرفة الله، أي الاتّحاد به، إنّما هي فعل محبّة!. فمَن يحبّ يعرف الله ومَن لم يحبّ لم يعرف الله لأنّ الله محبّة!.

بعد السّقوط، أي بعد غرق الإنسان في محبّة ذاته، لم يعد ممكنًا لله المحبّة، ولمحبّة الله، لتتكشّف، إلاّ أن تتكشّف صليبًا، أو قل صليبيّةً!. طبيعة الإنسان، بعد السّقوط، الْتَوَت!. ما هو طبيعيّ، من خلق الله، بات غير طبيعيّ، عنده، وما هو غير طبيعيّ، لدى الإنسان، أي ملتويًا، بات هو الطّبيعيّ في عينيه!. ما يعني أنّ ما صار يأتي النّاسَ، عفوًا، غريبٌ هو عن الطّبيعة الأصل للإنسان، وهو محبّةُ كلٍّ لذاته؛ أمّا المحبّة الحقّ فلم تعد تأتي تلقاءً، بل عنوةً، لا بفرضٍ من الله، بل بفرضِ الإنسان ما هو لله، على نفسه، طوعًا!. من هنا كونُ الصّليب، صليبِ قيامة الله في حياة الإنسان، صليبِ الحبّ، حتميًّا لتستقيم قناته!. فقط في القدّيسين، يستعيد الإنسان تلقائيّة الحبّ، ولا يبقى الحبّ صليبًا لديه، إذ يتمثّل قيامةَ السّيّد بالكامل، ويضحى ما هو من الصّليب، لدى العامّة، للألم، للفرح العميم والألم على العالم، في آن، لدى القدّيسين!. إذ ذاك، تتجلّى قيامة الصّليب بأبهى بيان!. هذا، طبعًا، يفترض سلوك الإنسان في نهج نسكيّ يتلقّنه من الّذين خبروه وأتقنوه من الآباء والقدّيسين، لأنّه أدنى إلى التّقنيّة الرّوحيّة، انطلاقًا من حقّ الإنجيل، وتمثّلاً لحقّ الإنجيل!. هذا هو التّراث ودور التّراث!.

النّسك، كلُّ النّسك، وكلُّ ألوان النّسك، لنا منه قصد واحد، وهو أن نتعلّم كيف نتحوّل من محبّتنا لذواتنا إلى محبّتنا لقريبنا؛ ومحبّتُنا لقريبنا هي العلامة أنّنا نحبّ، العلامةُ أنّ محبّة الله، بالرّوح والحقّ، أضحت هي الفاعلة فينا!. في مدرسة النّسك، نتروَّض على الحبّ كتضحية!. الصّليب والمحبّة والتّضحية واحدٌ والنّسك!. هكذا ننطلق من القيامة لنتمثّلها ونتملّأ منها!.

في النّسك حركتان تتضافران: حركة خروج من النّفس، حركة تخطٍّ للنّفس، حركة كُفر بالذّات، كما يدعوها الرّبّ يسوع، أي حركة تخلٍّ عن عشق الذّات؛ هذه حركة أولى، وهي تبدو سالبة، لكن مفاعيلها إيجابيّة جدًّا، والحركة الثّانية، المرتبطة، بالأولى، عضويًّا، والمرافقة لها، هي حركة الإقبال على محبّة العالم، النّاس، الخليقة!. في الحركة الأولى، ثمّة ما ينقص باطّراد: محبّتي لذاتي!. هذه تمسي عدوّتي!. أحاربها بعنف إلى المنتهى!. قد يُخيَّل للنّاظر هنا، أنّني في صدد محاربة جسدي، كأنّي بالنّسك أقتل جسدي، أنتحر، بمعنى!. هذا غير صحيح!. ما أودّ أن أفتك به هو جسدانيّتي لا جسدي، أهوائي، عشقي لذاتي!. التّمييز الظّاهريّ بين الأمرين، هنا، متعذّر!. نحن في صدد ما يشبه التّقنيّة، كما قلت!. وحدهم الرّوحيّون يميِّزون!. الإنسان الطّبيعيّ لا يقدر أن يعرف الرّوحيّات؛ وحده الرّوحيّ يحكم في كلّ شيء، وهو لا يُحكَم فيه من أحد (1 كورنثوس 2)!. قلت، محبّتي لذاتي هي عدوّتي، وهي كذلك لأنّها هي الّتي تمنعني من محبّة الله والآخرين، ما ينبغي عليه أن تكون حالي، لأنّ هذه هي طبيعتي الحقّ الّتي خُلقتُ فيها؛ فإن تصدّيتُ لها، أي لعشقي لذاتي، فإنّي أستردّ طبيعتي الأصيلة؛ أعود إنسانًا، أحقِّق إنسانيّتي!. وإلاّ ما دمت ماضٍ في عشقي لذاتي، فلا يمكنني إلاّ أن أشيّء الآخرين، وأستعملهم وقودًا لذاتي!.

ثمّ في الحركة الثّانية، ثمّة ما يزيد باطّراد، في آن: محبّتي لغيري!. بمحبّتي لسواي، أحبّ ذاتي محبّة حقّانيّة!. محبّتي للآخر هي العلامة الطّبيعيّة، بحسب الطّبيعة الّتي خلقني ربّي عليها، أنّي أحبّ نفسي!. ساعتذاك تتحقّق الوصيّة: أحبّ قريبك كنفسك!. الإنسان ما يعطي!. ما يعطيه الآنسان، في الحقيقة، هو ما يأخذه!. بكَ أصير إنسانًا!. ليس أحد قائمًا في ذاته!. إقامتي في ذاتي محبّةٌ زيفٌ لذاتي!. بحركة الحبّ صوبك أصيرُ وأُوجد لحياة أبديّة!. أصير مثل الله!. في البدء كان الكلمة، والكلمة كان نحو الله لا فقط عند الله، والكلمة كان الله!. هكذا بـ”النّحويّة” أصير إلهًا، أتألّه!. بحركة الحبّ صوبك أحقِّق ذاتي!.

هاتان الحركتان، تلك الّتي تنقص، وتلك الّتي تزيد، معبَّر عنهما، كتابيًّا، بما قاله يوحنّا المعمدان عن نفسه وعن الرّبّ يسوع: ينبغي لي أن أنقص، قال، وله أن يزيد!. هكذا تَحقّق وتعظّم لدى ربّه!. أعظمَ الأنبياء صار!. ما همّ، بعد ذلك، إن قُطع رأسه؟ كلّ نفس ذائقةٌ الموت!. رأس الكلام أنّ محبّته لله، أي الله المحبّة، صار هو رأسَه!.

ثمّ النّسك صوم وصلاة!. بالصّوم أخرج من ذاتي، لأدخل، بالصّلاة، قلوب النّاس!. هذه هي الحركة، بالقيامة، من الموت إلى القيامة!. لذا، ليس النّسك للخاصّة بل للعامّة!. به نتروّض على المحبّة!. به نتمثّل القيامة!.

أمّا الدّافع الّذي يدفع الرّبّ الإله لأن يذيقنا قيامته، فنحمل الصّليب إلى ملء القيامة، فهو أمانتُنا للحقّ، إن قلنا عن الحقّ إنّه حقّ، وعن الباطل إنّه باطل، ولو على حساب ما لنا!. إنّما حسّ الحقّ مزروع في كلّ كبد، منذ البدء!. فقط إن استرسل المرء في طلب ما لذاته، يَضمر حسُّ الحقّ فيه!. بغير ذلك يبقى كلّ إنسان، بطبعه، إلى الحقّ مائلاً!. والحقّ فينا، إذ ذاك، يستدعي اللهَ الحقّ، فيقومَ روح الله، بالمجّان، لا فقط إلينا، لأنّه يسمع نأمة كلّ قلب، بل يُقيم فينا، لأنّ غيرة بيته، أي إيّانا، أكلته!. يا بنيّ أعطني قلبك!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان

26 نيسان 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share