ربيعٌ بلا ألوان ! – الأب جورج مسّوح
يتقهقر في أوطاننا كافّة، يومًا إثر يوم، الحلم بقيام دولة مدنيّة حقيقيّة يتمّ فيها محو أيّ ذكر للشريعة الدينيّة في الدساتير والقوانين السائدة فيها. فإنّه بادٍ للعيان أنّنا نتّجه حتميًّا نحو مزيد من التشدّد الدينيّ والتطرّف المذهبيّ، ومزيد من التقاتل العبثيّ والتدمير والتهجير…
القضاء على الديكتاتوريّات القائمة سقط سريعًا في فخّ الجماعات الظلاميّة التي تتخّذ الشريعة ستارًا في سبيل بلوغ مآربها بالاستيلاء على السلطة، وباستبدال نظام دينيّ شموليّ لا يعترف بالتنوّع الدينيّ ولا بالحرّيّات العامّة بنظام شموليّ ذي طابع مدنيّ شكليّ لا يحترم الحرّيّات العامّة ولا يعترف بالتنوّع الحزبيّ والسياسيّ… نظامان، باسم الدين وباسم العلمانيّة على السواء، يحرمان الإنسان من كلّ الحقوق التي أقرّتها الشرائع العالميّة، ولا سيّما شرعة حقوق الإنسان.
“الربيع العربيّ” أُجهض قبل أن يبدأ. فكيف يمكن ربيعًا أن يزهر فيما تدعمه أنظمة لا تقلّ ديكتاتوريّة وظلاميّة عن الأنظمة التي قامت ضدّها الثورات؟ كيف يمكن ربيعًا أن يثمر فيما تدعمه أنظمة تعتبر التمرّد ضدّ الحاكم – حاكمها – عصيانًا لمشيئة الله؟ كيف يمكن ربيعًا أن يثمر فيما تدعمه أنظمة لديها أطماع توسّعيّة وإمبراطوريّة وسلطانيّة؟
كما يفيد لفظ “الربيع” تعدّد الألوان وتنوّعها، فربيع ذو لون واحد ربيع مريع. فكيف يسمّى ربيعًا القضاءُ على التنوّع الدينيّ والمذهبيّ، أو القضاء على التنوّع الحزبيّ والسياسيّ، أو استبدال نظام عسكريّ بنظام عسكريّ آخر؟ اللون الواحد، ولو كان أبهى الألوان، لا يصنع ربيعًا. الربيع هو صنو قوس قزح، علامة للرجاء والحياة.
ماذا ننتظر من جماعات تحتقر الفلسفة والعلوم الوضعيّة والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أن تصنع تقدّمًا وازدهارًا في مجتمعاتها؟ كيف يمكن الذي يقول إنّ العلوم كلّها متضمّنَة في العلم الدينيّ أو في كتاب واحد أن يصنع غدًا مشرقًا؟ كيف يمكن مَن يحتقر الإنسان أن يسهم في تكريم هذا الإنسان المحتقَر لديه؟
عندما وصلت أوروبا منذ قرنين إلى “ربيعها”، كانت قد عبرت في “الأنوار” وعصرها لقرون منصرمة أيضًا. لم يأتِ ربيعها من فراغ، من عدم، من لا شيء، من جهل، من تخلّف… أتى ربيعها من فلسفة وفكر وثقافة وعلم ومدنيّة. أتى ربيعها من علماء وفلاسفة وأدباء ومفكّرين ومجدّدين ونقّاد. ونحن بأمسّ الحاجة إلى هذا المخاض، وبخاصّة في ميدان الفكر الدينيّ، لنصل إلى ربيعنا المزهر. فليس ثمّة ربيع في مجتمعاتنا ما لم يسبقه “ربيع دينيّ”، وبخاصّة فيما يمتّ بصلة إلى موضوع الدولة والفصل ما بين الدين والدولة. هل ذلك من رابع المستحيلات؟ الله أعلم.
لن نرضى بأن يكون خيارنا محصورًا ما بين نظامين كلاهما يحتقراننا ولا يحترمان إنسانيّـنا ولا كرامتنا الإنسانيّة. كلاهما آيلان إلى الزوال يوم تشرق شمس الربيع الحقيقيّ الآتي بلا ريب. فأهلاً بالألوان حين تحلّ في ديارنا.
ليبانون فايلز
06 أيار 2015