المؤسّسة القاتلة الإلحاد الكنسيّ (٢) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Tuesday May 26, 2015 89

المؤسّسة القاتلة الإلحاد الكنسيّ (٢) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   الإلحاد، عند النّاس، هو القول بعدم وجود الله. هذا اعتقاد، تصوّر إدراكيّ، لا إثبات له. كيف تثبت أنّ ثمّة ما ليس موجودًا، بالمطلق؟ هذه مغالطة فكريّة. تثبت وجود ما هو موجود. وليس، فقط، ما هو موجود، بل ما هو معقول، في آن معًا، ما هو في نطاق العقل!. الله غير معقول، لا يَعقل المخلوقُ الخالقَ، فكيف تنفي أنّه موجود؟!. أو، بالعكس، كيف تثبت أنّه موجود؟!. في كِلا الحالين، تفترض أنّه فكرة، تدخلها نطاق المعقولات لديك، ثمّ تدحضها أو تؤكّدها!.

jesuss أنت، إذ ذاك، تعالج ما هو من ابتداع عقلك، تسقطه على الله، وليس من حضور الله، في ذاته، أو عدم حضوره، وفي ذلك افتراض إيهاميّ فلسفيّ ذاتيّ، ومن ثمّ عبثيّة فكريّة وخواء!. الصّحيح، أنّك تتنكّر، وجدانيًّا، لله، لسبب انفعاليّ، ثمّ تحاول أن تعقلن موقفك، إلى حدّه الأقصى، لتبيِّن أنّك تستمدده من فكر!. تحسب أنّ العقل أرقى من الانفعال لذا تحاول أن تخفي انفعالك وتتلبّس بالعقلنة!. لكن هاجس تأكيد عدم وجود الله وإصرارك عليه وعنفك في تقديمه، يخون انفعالاتك ويؤكّد أنّ موقفك لا يعدو كونه ردّ فعل، وفي ذلك كلّه، بالعكس، إثباتٌ لوجود الله في وجدانك، لكنّك تتنكّر له وتتعاطاه كأنّه غير موجود!. لو كان، فعلاً، غير موجود، لما كنت تبالي به!. ثمّ مبالاتك، بقوّة، بتأكيد عدم وجوده، لا فقط يؤكّد وجوده لديك، بل شعورك العميق بأنّك تخافه وأنّه يتهدّدك، لذا تحاربه وتلغيه من وعيك وفكرك لأنّك تشاء أن تكون سيِّد نفسك دونه!. بكلام آخر، تسعى إلى قتله فيك، وفي ذلك، لا منتهى العقلانيّة، بل منتهى الانفعاليّة المموّهة!. قتلُ الأب عقدة العِقد في النّفس!.

   أقول قولي هذا لأبيِّن أنّ الإلحاد العقليّ، على خفّة في الحجّة، ومن ثمّ لا قيمة له، في ذاته، لا فلسفيًّا ولا وجوديًّا؛ قوّته، بعامّة، إرهابيّة، في زمن الإرهاب، ما يؤول به، في نهاية المطاف، إلى مجرّد موقف سلوكيّ مؤدّاه التّصرّف وكأنّ الله غير موجود!.

   الإلحاد الفكريّ ليس هو بؤرة الخطر على البشريّة. الكيان الإنسانيّ يتكفّل، بمرور الوقت، بتسفيهه!. بؤرة الخطر هو الإلحاد الكنسيّ الّذي يقول بالله ومسيحه لكنّه يتصرّف كأنّه غير موجود، أو يقصر وجودَه، إراديًّا، على الحالات الواعية الّتي يجد فيها المرء نفسه في حال العجز!. هذا يجعل “شبه” الله أو قل “الآلهة”، في الوجدان، بالأحرى، “فَبْرَكة” نفسانيّة واعيّة يبتدعها ليوفّر لذاته الشّعور بالطّمأنينة، من حيث إنّ الإنسان أعجز من أن يستمرّ مكشوفًا بإزاء الخوف من الخطر الكونيّ، والإقامة في القلق أنّه مهدّد، أبدًا، ولا طاقة له على السّيطرة على ما يتهدّده!. هذا الشّعور العميق فتّاك، يطيح الاتّزان الدّاخليّ في الإنسان ويقتله!. من هنا الوثنيّة، كبديل تلقائيّ عن عبادة الله الحيّ، في كلّ حال!. حيث لا إله حقّ فاعلاً في الوعي، ثمّة آلهة مبتدَعَة لا محالة!. في الألوهيّة المبتدعة يمتدّ الخطّ البيانيّ بين عبادة الحجر وعناصر الطّبيعة الأخرى وعبادة الذّات والعقل، مرورًا بشتّى الشّعارات المختلقة الّتي تُتعاطى عباديًّا والّتي توهم، لكنّها تَستغلّ وتُحبط!. حيث الله مسبيّ، بشريًّا، بالإنسان، عنه، ثمّة كتلة أوهام، تُعتبر قناعاتٍ أو اعتقادات، يلتزمها وتتحكّم بسلوكه!. هذه لا تأتي من جهالة فقط، بل، في عمقها، من شرّ وشرّير!. من هنا قول الكنيسة بأنّ عبادة الأوثان، وما يعادلها، عبادة شياطين!. هذا مصدرها!. “الفبركة” النّفسانيّة شيطانيّة الطّابع!. وذروتها تماهي النّفس والشّيطان، وعبادة الشّيطان!.

   الإلحاد الكنسيّ، أو الإيمانيّ، هو الخطر الحقيقيّ على الكنيسة، ومن ثمّ على الإنسان، بدءًا بالإنسان المحسوب على الإيمان!. في الكنيسة لا فصل بين الكنيسة ومسيح الرّبّ!. هي جسده، بلغتنا!. هي إيّاه!. فمتى أبقيتَ، فعليًّا، في وجدانك، على الكنيسة، وتنكّرت للمسيح، المتمثّل حضورُه لديك في حفظك وصاياه، أو، بكلام أدقّ، وصيّتَه الّتي هي أمّ كلّ الوصايا وغايتها، عنيتُ وصيّة المحبّة، فإنّك تحيل الكنيسة طائفة، وجودًا اجتماعيًّا، قطيعًا، ولو كانت له رموزه وشعاراته وطقوسه!. ما تتعاطاه، إذ ذاك، يكون لا الحياة الكنسيّة، بل الإلحاد الكنسيّ، لأنّك تتصرّف كأنّ الرّوح والمسيح غائبان عن أفقك ووجدانك، ما يعادل كونهما غير موجودَين في حسبانك!. إغفالك الوصيّة، وأنت عارفٌ بها، تجاهلٌ وإلحاد!. بكلمة، أن لا تحبّ معناه أن تكون ملحِدًا!.

   بالقياس عينه، الإيمان بدون أعمال ميت!. لذا لا إيمان إلاّ إذا كان فاعلاً بالمحبّة!. ما يجعل أنّ الإيمان غير الفاعل بالمحبّة ليس إيمانًا في الحقّ، أو، بإمكانك أن تقول، هو “إلحاد إيمانيّ”، على ما في التّعبير من مفارقة!.

   موضوع “خدمة الموائد” مهمّ، لا بل جوهريّ، وله دلالاته العميقة، في الكنيسة، لأنّ “خدمة الموائد” هي خدمة محبّة!. المفترض أن تكون “خدمة الموائد” تجسيدًا لوصيّة المحبّة!. فإذا لم تكن المحبّة مجسَّدة في “خدمة الموائد”، فإنّ وصيّة المحبّة لا تعود مَبعثًا لحياة جديدة!. الوصيّة، إذ ذاك، تستحيل كلامًا في الهواء!. وإذا ما استحالت الوصيّة كلامًا أجوف فإنّ الله، في الوجدان، لا يكون قد تجسّد!. وإذا لم يكن قد تجسّد فإنّه لا يكون معنا وفيما بيننا!. وإذا لم يكن معنا وفيما بيننا فإنّه لا يعود حيًّا فينا ويحيينا!. يصبح الله، ساعتذاك، مجرّد فكرة؛ أمّا، في شخصه، فلا يعود موجودًا لدينا!. فإذا ما كان هذا هو موقفنا منه، فإنّنا نكون قد احتضنّا الإلحاد!. قد نسمِّي الأمر بأسماء لا تعبِّر عن واقعنا، والحال هذه!. هذا يكون تسمية للأشياء بغير أسمائها، فقط وفق ما نرغب به وما نتصوّره!. وما يغيِّر الوهمُ شيئًا في صحّة الواقع!. الكرازة بالكلمة، إذ ذاك، تضحى معطّلة، بلا ثمر؛ وتستحيل تسويقًا لأيديولوجيّة ميتة!.

   مؤسّسات “خدمة الموائد”، حين لا تكون، في الكنيسة، إيقونات لمحبّة الله، وحقولاً لتعاطي المؤمنين هذه المحبّة، فيما بينهم، فإنّها تستحيل قوى تُجهض إنجيل الحياة!. لا يمكن لهذه المؤسّسات أن تكون محايدة في الكنيسة!. إمّا أن تكون في خدمة الإنجيل وإمّا أن تطيح الكنيسة، باسمها، وفي عقر دارها!. مؤسّسة لا تُجسِّد محبّة الله في الكنيسة، ولا تتحرّك باتّجاه النّاس، بقوّة هذه المحبّة، هي مؤسّسة هويّتها الإلحاد، وتروِّج للإلحاد وتضغط المؤمنين في الكنيسة ليستسلموا للإلحاد!. أما يُجدَّف على اسم الله بسببها؟!. أنّى لمَن يطالع الإلحاد في المؤسّسة أن يصدِّق ما يُقال، بعد ذلك، من على الباب الملوكيّ أنّ الله محبّة؟!. أليس أنّ الّذين “يسبِّحون بحمد” المؤسّسة لهم صورة التّقوى ولكنّهم منكرون قوّتها” (2 تيموثاوس)؟!. أما يتّخذون اسم إلههم باطلاً وهم يعملون أو يرضون بأن يُجعَل بيت أبيهم، أمام عيونهم، مغارة لِلُصوص المال والسّلطة والفكر؟!. الّذين همّهم، لبناء المؤسّسة، في جمع المال، بكلّ الطّرق المشروعة وغير المشروعة، دون الاكتراث بسدّ حاجة الفقير، وهم لا يؤمنون لا بجدوى البركة ولا الصّلاة، ولا بأنّ الله يعين، ولا بأنّه إن لم يبنِ الرّبّ البيت فباطلاً يتعب البنّاؤون، ألا يُضمرون أنّ الله غير فاعل، ومن ثمّ غير موجود؟!. هل هناك إلحاد أشدّ من هذا الإلحاد الكيانيّ؟!. ثمّ أما يُغَلِّفون إلحادهم بالإيمان الإسميّ حين يؤطِّرون إلحادهم بالطّقوس والأسماء الحسنى والإيقونات والكلمات الملاح من الإنجيل؟!. أما هكذا فعل الوثنيّون منذ الدّهر؟!. كانوا يَذبحون لـ”آلهتهم” خدمةً لأهوائهم؟!.

   ليس الله هو غير الفاعل، إلحادنا هو الّذي يحبس نعمته عنّا!. مَن الّذي أطعم العبرانيّين وسقاهم في البرّيّة وحفظهم؟!. مَن الّذي أطعم الجموع من الخمسة الأرغفة والسّمكتَين؟ مَن شفى العمي وقوَّم المخلَّع وطهَّر البرص وطرد الأرواح الخبيثة وأقام لعازر؟!. كلّ هذا حكايات وأساطير؟!. أكان ربّكم فاعلاً بالأمس ولمّا يعد فاعلاً  اليوم؟!. أفعالنا هي الّتي حجبت الخير عنّا!. أما سمعتم قول النّبيّ: شعبي صنع شرَّين: تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة، وحفروا لأنفسهم آبارًا، آبارًا مشقَّقة لا تضبط ماء (إرميا 2)؟!.

   وبعد ذلك، ثمّة مَن يحسبون أنّ مَن يتكلّم على واقع المؤسّسات، قصدُه أن يهين وأن يتهجّم على القيّمين عليها!. لندَعْ أبلهَ يتكلّم وعاقلاً يسمع: إن تصدَّينا للمرض أذلك لأنّنا نريد أن نهين المريض، أم لأنّنا نحبّه ونعمل على شفائه؟!. إن مججنا الخطيئة، أذلك لأنّنا نمجّ الخاطئ، أم لأنّنا نغار عليه؟!. أيضرب الأب ولده بحجّة أنّه صغير ولا يفهم لأنّه قال لأبيه: يا أبي بيتنا يحترق؟!. أنّى لنا أن نُتمّ، إذًا، الوصيّة أن احملوا بعضكم أثقال بعض إن كنّا لا نبالي بأحوالهم وأوحالهم؟!. أما قرأتم قولة حزقيال النّبيّ: إذا قلتُ للشّرّير، قال ربّك: يا شرّير، إنّك تموت موتًا، ولم تتكلّم أنتَ منذِرًا الشّرّير بطريقه، فذلك الشّرّيرُ يموت في إثمه، لكنّي من يدك أطلب دمه (حزقيال 33)؟!.

   ويلاه، أين وصلنا؟!. بات قول الحقّ للمهانة وبات التّنبيه للتّجريح!. كم من موبقات تُرتَكَب باسم ربّك؟!. كلمة الله تصير لنا للموت، وكلٌّ سكِّيرُ أهوائه!. حتّى متى؟!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
24 أيار 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share