فرّيسية جديدة – المطران سابا (اسبر)

mjoa Friday May 29, 2015 116

فرّيسية جديدة – المطران سابا (اسبر)

ثَمَّة نَفَس تجده في الأجواء الكنسية، هنا وهناك هذه الأيام. ينقد أصحابه كلّ شيء ويتصلّبون بما يعتقدونه أصيلاً، ويهاجمون كلّ ما هو جديد في نظرهم، معتبرين إيّاه بدعة وحداثة تقوّض الإيمان وتهدم كنيسة المسيح. أصحاب هذا النَفَس عنيفون في هجومهم، متصّلبون في مواقفهم، متّهِمون من لا يوافقهم في آرائهم بالخروج عن الإيمان. يستسهلون الحكم بالهرطقة على كلّ ما لا يتفق ونظرتهم. ومرجعهم، في كلّ ما ينادون به، ذواتهم وما يرونه هم الحقّ والأصالة.

met.saba-esberيفسّرون الكتاب المقدّس بحسب هواهم، فيقفون عند الحرف ولا يصلون إلى الروح، متناسين كلمة الرسول بولس “لأنّ الحرف يميت والروح يُحيي”(2كو3/6).
ليست الكنيسة بنت البارحة، فعمرها الأرضي عشرون قرناً، وهي الآن في الواحد والعشرين. لها تاريخ طويل جداً وشائك جداً، اختبرت خلاله أنواعاً مختلفة من الأنظمة والأوضاع والثقافات والبدع والهرطقات، واستطاعت بقوّة الروح القدس التعبير عن إيمانها، والبقاء أمينة له حتّى الاستشهاد، وذلك تحت مختلف الظروف والضغوط والضيقات؛ في أزمنة الحرب والسلم؛ في أيام الاضطهاد والحرّية؛ أمام الثقافات والتيارات الفكرية المختلفة، إيمانية كانت أم ملحدة. فأبواب الجحيم لم تقوى عليها، حسب وعد الرب في إنجيل متى (16/18).
يتناسى أصحاب هذا النَفَس كلّ الحسنات والإيجابيات التي تقوم بها الكنيسة. كذلك لا يرون أفعال الله الملموسة في التاريخ. إنّهم يتعامون عن مسيرة التاريخ الدائمة، ليقفوا عند انتقاد حادّ هجومي وعدائي وخالٍ من المحبّة، التي تميِّز تلاميذ المسيح، وبها فقط يُعرف تلاميذه.
يتوقفون عند الشكل دون الدخول إلى مضمونه وما يعبّر عنه. لا يهمهم الجوهر الذي قد يرتدي شكلاً آخر في ثقافة أخرى. ولا يقيمون وزناً لمسيرة التاريخ المتبدلة، ولا لانعطافات العلوم وما تطرحه من تحديات. الإنسان في نظرهم خاضع لمتطلبات الإيمان التي صاغها التاريخ دونما اعتبار لإمكانيات الإنسان والتبدل الذي يطرأ على الأجيال الجديدة.
يعتبرون، على سبيل المثال، أنّ الكنائس يجب أن تبنى من الحجر. وحجّتهم في أنّ للبيتون عمر لا يتجاوز المائة سنة في أفضل الأحوال، ما يحتّم هدم المبنى الكنسي بعد انقضاء زمن فاعلية البيتون. يتجاهلون كمّ الكنائس الحجرية التي تهدمت بفعل الزمن والحروب والزلازل، كما ينسون تلك التي تحوّلت إلى أماكن عبادة لأديان أخرى، أو حتّى إلى زرائب للحيوانات بفعل تهدمها وزوال المسيحيين من أماكن تواجدها، كما هي الحال في سوريا الشمالية والجنوبية.
يتسلّح هؤلاء بالآباء. وكلمة الآباء عندهم مطّاطة، وقد درج كثيرون، في الآونة الأخيرة، على استعمالها ليدعموا رأيهم. وإذا ما سألت معظمهم عن مستندهم، ومتى قيل، وأين يوجد، تراهم لا يجدون جواباً. باتت كلمة الآباء مصطلحاً للدفاع عن مواقفهم وتبريرها، ولكن، غالباً، دونما معرفة وتدقيق. هكذا هو الأمر مع بعض الفئات المسيحية التي تتمسكّ بكلمة الله المكتوبة في الكتاب المقدّس، وتتناسى كلمة الله الحيّة بفعل حضور الروح القدس الدائم في كنيسة المسيح.
على الكنيسة بنظر هؤلاء أن تبقى أسيرة لتعابير ونُظُم وتقاليد [ولا أقول التقليد الشريف] صاغها الروح في أزمنة التاريخ، لكي ما تعبّر الكنيسة عن إيمانها، وتجسّده في لغة الناس وثقافاتهم، المتغيّرة والمتبدلة والمتطورة أبداً. عندهم إذا عبرّت الكنيسة بطريقة ما، في زمن ما، فيجب أن تسود طريقة تعبيرها هذه في كلّ الأزمنة، وعلى الروح القدس، تالياً، أن يتوقّف عن العمل، بحسب هؤلاء، لئلا يبتدع شيئاً جديداً، ولو كان لازماً وضرورياً من أجل خلاص الإنسان. أترى الإنسان يخلُص بقوالب وأشكال، أم بالروح القدس الحيّ والفاعل فيه؟.
إلى ذلك تلمس عندهم خوفاً على الإيمان المستقيم، يلامس حدود الرعب، حتى يكاد يصير وسواساً مَرَضياً يرى في كلّ شيء مؤامرة على الكنيسة الأرثوذكسية والوديعة التي تحفظها بأمانة. يعتقدون أنّهم فقط من يحفظها، فيلجأون إلى التمسّك المتزمّت بأشكال وتقاويم عرفتها الكنيسة في أزمنة ماضية، وكانت في حينها تعبيراً ناجحاً عن الإيمان المستقيم، في ثقافات ذلك الزمان. فتصير كتابة أسماء القدّيسين على الأيقونات بلغة البلد بدعة، لأنّ الأحرف اليونانية القديمة، بنظرهم، وحدها تتناسب وفن الأيقونة الأرثوذكسي!!. يتداولون تأمّل القدّيس نكتاريوس، “مسكينة أنتِ أيتها الأرثوذكسية” وينشرونه في كلّ مكان، مدفوعين بتضخيم مهجوس باستهداف الأرثوذكسية. ويمسي كلّ عمل في الكنيسة، رعائياً كان أم تنظيمياً، وحتّى روحياً، هادفاً إلى القضاء على الإيمان وتفتيت الكنيسة.
والطامة الكبرى أنّ البعض منهم يتهّم كنيسته بالكفر لأنّها تسير على التقويم الغربي في أعيادها الثابتة. يطالبون باستعادة التقويم القديم في كلّ الرزنامة الليتورجية، وكأنّ القديم يصير أميناً لمجرّد قدمه فقط. يشقّون الكنيسة من أجل خلاف على اتباع تقويم ما. علماً بأنّ التطور العلمي الفلكي أثبت حاجةً إلى إصلاح التقويمين، الشرقي والغربي. أتراهم آباء المجمع النيقاوي الأول اتبعوا قاعدة الفصح بناء على تقويم أرسله لهم الروح القدس، أم بناء على ما كان متوافراً لهم من علوم وحسابات علمية فلكية في ذلك الزمان؟!!!
وإذا ما سمّم هؤلاء الكنيسة بروح البغضاء والشقاق والتكفير والعداء لكلّ قائد ومرشد وأب روحي لا يقول قولهم، فإنّهم لا يرون في أنفسهم أداة للشيطان الذي يستهدف كنيستهم. لعمري إنّها لعبته الكبرى. يستخدم أمانة وصدق وطهارة بعض أبناء الكنيسة لكي يشقّوها، وهم مقتنعون بأنّهم يطهّروها.
الأمانة مطلوبة من جميع المؤمنين. ولك أن تختلف في الرأي مع إخوتك بما يخصّ قبولك أو رفضك لبعض الأمور غير المتعلقة بالعقيدة مباشرة. أمّا المعيار الفصل لعدم وقوعك في الانحراف فهو دوام المحبّة والتواضع وحوار الإخوة. أمّا أن تحتكر رأي المسيح، وتنصّب نفسك ناطقاً باسمه، وتنفصل عن كنيسته الحقّة لتخلق ما تظنّه كنيسته، يعني أنّك بلغت من الكبرياء ما يجعلك أداة في يد الشيطان. لعمري إنها الخطيئة العظمى.
25 أيار 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share