المؤسّسة القاتلة :التـّوبة (4) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday June 8, 2015 71

المؤسّسة القاتلة :التـّوبة (4) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   الكلمة، في أوّل المسيحيّة، ترافقت والمحبّة، وهكذا تلْقاها كائنةً، في كلّ جيل، لأنّ كلمة الله محبّة!. لهذا، غزت كلمة المحبّة قلوب الكثيرين، لأنّهم، في أصالتهم، في أعماقهم، بفطرة الطّبيعة، كانوا، أبدًا، في صدد البحث عن المحبّة في الحقّ!. هكذا استبانت الكلمة، وهكذا ثبتت، وهكذا فعلت في الكنيسة!.

 tawba  غير أنّ خطرين كانا، دائمًا، يهدّدان المسير في النّفوس: الهرطقة العقديّة، لأنّها تشويه لله الحقّ، وإفساد للكلمة المكروز بها!. هذا خطر أوّل. والهرطقة السّلوكيّة، إذا ما استبدّت الفردانيّة في النّفوس، وأُطيحت الشِّركانيّة، وتفشّت، بنتيجتهما، اللاّمحبّة، إذا استُعيض عن المحبّة بالمشاعريّة وعشق الذّات. هذا خطر ثان!.

   اليوم، لا محبّة في الجماعة، كجماعة معتبَرة كنيسة، بعدُ!. ثمّة محبّة لدى بعض الأفراد، لمامًا!. شركة المحبّة، بعامّة، باتت مفتقَدة!. الكلمة، في الوقت الحاضر، تواجه أزمة مصداقيّة!. كيف تنشر وصيّة المحبّة، ولا تجد مقابلاً لما تحدِّث عنه؟!. حتّى، نظريًّا، تفشل، مهما كنت مُقنِعًا، لأنّه ليس يضمن الكلمة أن تكون مقنِعًا، بقوّة الكلام، بل بقوّة المحبّة!. لا مسافة بين الكلمة والمحبّة. الكلمة، بطبيعتها، محبّة، والمحبّة، بطبيعتها، كلمة!. هكذا الأمر في الله، وإن لم يكن في النّاس!. أليس مسيح الرّبّ هو المحبّة والكلمة في آن؟!.

   لذا تبشّر بالمحبّة، أوّلاً، أي تبثّها، ثمّ المحبّة تبشِّر بالكلمة، أي تحبل بها، ثمّ الكلمة تبشّر بالله المحبّة، أي تكشفه، والبشارة بالله المحبّة تقيمك في حضرة الله!. على هذا، تعرِفِ المحبّة فتعرفِ الكلمة، وتعرف الكلمة فتعرف الآب!. لذا قيل: “مَن يحبّ يعرف الله ومَن لا يحبّ لم يعرف الله لأنّ الله محبّة” (1 يوحنّا)!.

   إذًا، لا إمكان فصل بين الكلمة والمحبّة، وإلاّ لا تكون الكلمةُ كلمةَ الله. فلا غرو إن كانت قوّة كلمة الله من غزارة ثمار المحبّة الّتي تتفتّق منها. المحبّة تأتي من الكلمة، والكلمة من المحبّة!.

   هذا يجعل أنّ الثّمار لا يمكن أن تكون من خارج الكلمة، وإلاّ كانت مغروضة، بمثابة رشوة، طُعْمًا لاصطياد النّاس، فخًّا للإيقاع بهم، تسويقًا لكلمة فاسدة!. الثّمار ثمار!. إذًا، من طبيعة الكلمة!. الملتوي القلب همّه المكسب، لذا يمثِّل اقتبال الكلمة، وما يتمثّلها!. أمّا المستقيم القلب، الباحث عن الكلمة القويمة، فيُعطى أن يحدس في قلبه ما إذا كان ما يُعطاه عن محبّة أصيلة أم عن زيف وتعمية!.

   كلّ قول يجعل المؤسّسة مدًى استثماريًّا تذهب منافعه لخدمة المرامي الكنسيّة، ومنها خدمة الفقير، كلّ قول من هذا النّوع سِقْط. ما هو مرتكِز في المال يجعلك مستأسَرًا لحبّ المال!. الفقير، بإزاء ذلك، ذريعة!. الحاجة هي لأن تكون المحبّة هي المرتَكَز!. طبعًا تعبِّر بالمال كما بغير المال!. لكن مالاً لا يأتي من قلب محبّ، ملوّث!. ما لا ينبع من القلب المحبّ لا يمكن إلاّ أن يكون في خدمة الأهواء!. لذا، لا بديل عن خدمة المحبّة إلاّ خدمة المحبّة النّقيّة!.

   ثمّ القول الاستسلاميّ إنّ القوم لا يُعطُون لوجه الله، وهم بحاجة لأن تتحرّك أهواؤهم ليُعطُوا، إذًا نبيعهم “كلمة الله” بروح العالم، قول ساقطٌ ومجرم!. هذا أبشع من السّيمونيّة!. السّيمونيّة ترمي لشراء موهبة الله بدراهم، أمّا نحن، إن صرنا خدّامًا لأهواء النّاس بحجّة أن محصّلة ذلك تعود إلى الكنيسة، فإنّنا نعمل، من حيث ندري ولا ندري، على بيع ما لله للشّيطان!. إذا ما كانت النّفوس مريضة فإنّنا نطبّبها!. لا نثبّتها في مرضها، ولا نغتذي، كالبعوض، من مياهها الآسنة، بحجّة خدمة صحّة النّفوس!.

   لذا، بإزاء المؤسّسات السّاقطة للخدمة الاجتماعيّة في الكنيسة، نخلق البدائل، حتّى لا نوجَد، وقد غادرَنا مجدُ الله (الشّيخينا)، كما غادر هيكلَ أورشليم، فاستحال الهيكلُ أثرًا بعد عين!.

   قبل ذلك، نسعى لأن تُنزَع كلّ صفة كنسيّة عن تلك المؤسّسات بدءً بأسمائها!. لا لأسماء السّيّد والسّيّدة والملائكة والقدّيسين على المؤسّسات!. كلّ ما يحمل اسمًا إلهيًّا بيتٌ لله ومِلك للعليّ!. لا تُعلمتوا الاسم الحسن!. الله حاضر في اسمه وكذا قدّيسوه!. فلا تعهِّروا بيت إلهي ولا تجعلوه بيت تجارة!.

   أمّا البدائل فلا تحتاج إلاّ إلى الأمانة والاستقامة والغيرة على بيت الله!. البَرَكة هي رأس المال، وكفى!. كلّ ما عدا ذلك يُعطى لكم ويُزاد!. باثني عشر صيّاد سمك فقير غزا ربّك عالم قلوب النّاس!. لذا حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، بروحي، على كلمتي، هناك أكون في وسطهم!. لا شيء لنا ونحن نملك كلّ شيء!. فقراء ونغني كثيرين!. كلّ ما تطلبونه في الصّلاة مؤمنين تنالونه!. حيّ هو الله الّذي أنا واقف أمامه!. لا تطفئوا الرّوح ببراغماتيّتكم!. الجريمة لا أن تُعرضوا عن الله باسم الله، وحسب، بل أن تخلّفوا اليأس منه فينا، بالأحرى!. فليكن الله صادقًا وكلّ إنسان كاذبًا!.

   إنّما الكنيسة قطيع صغير!. القطيع الكبير يستحيل جمهورًا، والجمهور، بيسر، ينقلب قوّة من هذا الدّهر!. غوليات الضّخم أتى بقوّة عضلاته وسلاحه، كما تأتي الجماهير بقوّة غوغائها، أمّا داود الصّغير فأتى باسم الله، كما المرأة بفلسَيها!. أمّا قصور هذا الدّهر فاستحالت ملهى للجرذان، وأمّا الأرملة فابتاعت الملكوت!.

   لسنا هنا لنبني “حضارة مسيحيّة”!. حضارتنا حضرة تحمل عطر المسيح، شهادةً للعليّ، أو لا علاقة لنا بها!. المخلّفات، لا همَّ أين تستقرّ!. لسنا متحفًا ولا أوابد ولا عادات ولا سجل تاريخ!. نحن، هنا، لنعبُر، أبدًا، في الرّوح الحيّ، إلى وجه ربِّنا، واليد باليد، والمُقعَد على ظهر القويم، والأعجز على سواعد القادرين، والصّغار على أذرع الكبار، وربّك نورٌ من أمامك وغمام من ورائك، حتّى تعبر البحر الأحمر إلى الصّحراء، ومنها، وحسبُك المنّ والسّلوى وجسد ربّك وماء الرّوح، تأتي إلى أورشليم العلويّة، فقيرًا مليكًا!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
7 حزيران 2015

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share