المؤسّسة القاتلة مائدة الكلمة (٥) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Tuesday June 16, 2015 66

المؤسّسة القاتلة مائدة الكلمة (٥) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   مَن لم تتجسّد الكلمة فيه محبّةً لا يقدر أن يكرز بالكلمة!. وحدهم القدّيسون يبشِّرون، حتّى لا تستحيل الكرازة تجارة كلام!. وتجارة الكلام من نتاج السّقوط!. بالسّقوط، انقسم الإنسان على نفسه!. تفكّك!.

   من صمت المحبّة الغامرة تأتي الكلمة أو تكون كلام جهل!. تستعيد الخليقة وحدتها، بهاءها، فردوسها!. قبل أن تخرج الكلمة الحقّ من الدّماغ، تنطلق إليه من قلب نقيّ!. الكلمة روح قبل أن تكون حروفًا!. الحرف جسد الكلمة والحبّ روحها!. لذا من البدء كانت المحبّة فكان الكلمة!. الخليقة، من هذا المَعين، جرى إبداعُها، أيقونةً للمحبّة الكائنةِ كلمةً!. بهذا المعنى، بالذّات، أنا وأنت كلمات!. والمحبّة هي المعنى وإلاّ لا معنى للكلمات!. دلالاتها البشريّة اصطلاحات، أمّا معانيها فمقاصد إلهيّة!. لذا كان فكُّ المعنى عن الكلمة أساسَ الإلحاد!. في ذاتها، الخليقة لا معنى لها!. الجسد لا ينفع شيئًا!. الرّوح هو الّذي يحيي!.

bible-on-table   الكنيسة، بطبيعتها، بُشْرى؛ الفرح الّذي لا يُنزَع منّا، فيها، هو ما تتعاطاه، أو ليس لها ما تقدّمه!. من أين يأتي فرحها؟ من فوق!. وممّا يأتي؟ من محبّة الله، أو قل من الله المحبّة!. وكيف يأتي؟ بسكب الله ذاته، فينا، روحًا!. الكنيسة عنصرة المحبّة الإلهيّة الّتي فيها، أبدًا، تتكشّف أعماق الله!. الكنيسة فيض محبّة أو لا قيمة لها!.

   مَن قال لكم: الكنيسة مؤسّسة، ولو ادّعى أنّها إلهيّة، فقوله ملتبِس!. لا يمكن الكنيسة أن تكون مؤسّسة لأنّها روح!. الرّوح لا يتمأسس، كما الحياة!. الرّوح يُحيي!. الرّوح يهبّ حيث يشاء!. المؤسّسة، نظريًّا، نظام!. في ذاتها، لا حياة فيها!. ميتة وتتعاطى الموت!. تتروحن وتُحيا بعمل روح الله الفاعل في المقامين عليها!. أوّل خدّام “خدمة الموائد”، كمؤسّسة، كان استفانوس، “رجلاً مملوءًا من الإيمان والرّوح القدس” (أعمال الرّسل)!. إذًا، ليس النّظام يحكمها بل الرّوح، وحيث لا روح تَفسد المؤسّسة!. أمّا الكلام على الكنيسة، كمؤسّسة إلهيّة، فقول تناقضيّ، لأنّ ما هو إلهيّ ينتظم من ذاته، ولا يحتاج إلى مؤسّسة لينتظم؛ وأمّا المؤسّسة، إن حُسبت “إلهيّة”، فإنّها تأسر اللاّهوت وتستغلّه وتنفيه وتتغرَّب عنه!. ثمّة نظام، فوق النّظام، قائم في اللاّهوت، فإن أقام اللاّهوت في النّظام، أو، بالحريّ، أُقحِم فيه، زعْمًا، فإنّ اللاّهوت يتجوّف ويضحى مطيّة للنّظام!. باسم الله، إذ ذاك، تُرتكب الموبقات!.

   على هذا، كان استقلال المؤسّسة، في الكنيسة، وقيامُها في ذاتها، كإدارة، بمعزل عن استقامة روح المقامين عليها، محبَّةً، خطاً شائعًا!. الرّوح هو الّذي ينشئ المؤسّسة، أمّا المؤسّسة، المستقلّة عن الرّوح، فتقتل الرّوح!. السّؤال إذًا هو: كيف تحفظ الرّوح في المؤسّسة؟ بأن ينحصر همّك في ما للرّوح، كيف تنميها، كيف تطلقها؟ ليست المؤسّسة، في ذاتها، قطب الاهتمام!. هي مجرّد إطار!. الرّوحيّون هم المحور لا المؤسّسة!. المؤسّسة، إذًا، متحرّكة بحركة الرّوح في الرّوحيّين!. تَزيد عليها، تُنقص منها، تُعدِّل فيها، وأحيانًا تستغني عنها، متى استدعى بنيان المؤمنين ذلك، ومتى صارت المؤسّسة عبءً على الكنيسة وعثرة!. المهمّ أن تكون المؤسّسة في خدمة الرّوح!. فإن أفلتت من ضبط الرّوح لها، كان هذا مؤشّرًا أنّ الرّوح فينا أصابه الضّمور!. ولا حسّ مشترَكًا بعدُ!.

   أخبروا عن رئيس دير، فيه رهبان كثيرون، أنّ الدّير ازدهر اقتصادُه وزادت أرزاقُه وفاضت مداخيله، فأصاب رهبانَه الخورُ والكسلُ والملل!. فصلّى رئيسه ماذا يعمل؟ فألهمه الرّوح بالصّالح، فقام وأحرق الدّير!. حزن الرّهبان حزنًا شديدًا عليه، أمّا الرّئيس فقال لهم: الآن بات بإمكاننا أن نبدأ من جديد!. ففعلوا فاستعادوا سيرة الفقر وروح الصّوم والصّلاة ونهجَ التّعب، وحميّتهم الأولى، فرُدَّت الرّوح وفرحُ القلب، وازدهرت الحياة الرّهبانيّة، في الدّير، من جديد!.

   علينا ألاّ ننسى أنّنا قوم يتشوّفون إلى الملكوت الآتي، وأنّ مملكتنا ليست من هذا العالم!. الكلام على تجسيد الملكوت، في هذا الدّهر، لا يكون بالتّرويج لمؤسّسات، دهريّة الرّوح، تحمل اسم إلهنا ولا تعمل أعماله، بل بملازمة المؤمن الرّوحَ الأخيريّة Eschatologique، والتزامِ الفقر، وحفظِ الأمانة لله، وصونِ شركة المحبّة، والعبادةِ بالرّوح والحقّ!. بهذا يشهد المؤمن للسّماء على الأرض، إذ حيث لا محبّة للمرء فقد صار نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ (1 كورنثوس)!.

   قبل أن يجري الحقّ، عندنا، كالمياه، والبرّ كنهر دائم (عاموص)، ليست لنا كلمة نقولها!. نحتجب!. أحببت لذلك تكلّمت، يُفترض أن يقول الصّدّيق!. حتّى ذلك الحين نصمت!. نجمع رحيق الوصايا ونخمِّرها، كالنّحل، بلعاب التّوبة!. ثمّ، في أوان الجني، تفيض قفرانُ قلوبنا عسلاً، محبّاتٍ تحلّي مرارات العمر وتُشبع الكيانات الجائعة وتبلسم جراحات النّفوس المهشّمة!. ليس البديل أن نبتدع خطط عمل جديدة!. البديل أن نعود إلى المحبّة الأولى!. ليست الأزمة أزمة تحديثِ مؤسّسات، الأزمة أزمة إيمان حيّ فاعل بالمحبّة!. البديل حياة جديدة!. هذه، إن لم تكن فينا، نستعيض عن الكلام الفارغ بكلام فارغ مثله، ولو من لون آخر!. التّغيير في اللّون ليس تغييرًا في الرّوح!. أعطني قلبك يا بنيّ!.

   نبدأ من جديد!. أقوم أعود إلى أبي!. لست مستحقًّا، بعدُ، أن أُدعى لك ابنًا!. أخطأت إلى السّماء وأمامك!. اجعلني كأحد أجرائك!. ذهبتُ إلى بلاد بعيدة!. بعيدًا عنك، ربّاه!. أطلقتُ العنان لنفسي في عيش مسرِف!. أخيرًا، أفلستُ!. وجدتُني في المجاعة الكيانيّة!. انحططت إلى مستوى من يُطعم الخنازير الفكريّة!. حتّى طعام الخنازير اشتهيتُه وما تسنّى لي!. شعرتني مهانًا في كرامتي العميقة كإنسان!. أنا ابن أبي وأستسلم لخنزيريّة المسرى؟!. احتدّت فيّ روحي!. فشلتُ!. لكنّي لست أيأس!. قلت: أعود إليك!. خير لي أن أكون صعلوكًا في بيت إلهي من أن أسكن في مساكن الخطأة!.

   حالما اشتهيت أن أكون لديك، وجدتُك أمامي!. احتضنتَني!. لم تحاكمني!. لم تعاتبني!. أقمتني إليك!. قلتَ عنّي، ولم تقل لي، لأنّك لم تشأ أن تجرحني: كان ميتًا فعاش، وكان ضالاً فوُجد!. لذا ينبغي لنا أن نفرح!.

   تكلّمتُ على خدمة “الموائد”؟!. أين هذه من المائدة الّتي أعددتَها لي منذ البدء!. ذبحتَ لي العجلَ المسمّن، روحَك الصّالح هاديني في أرض مستقيمة!. كسرتَ جسدك وأطعمتني!. سكبت دمك وسقيتني!. ويحك يا نفس!. مَن أنا لأجالس الملك؟!. لآكل من أُكُلِ محبّتِه؟!. فقير أنا وفي الشّقاء منذ حداثتي!. لكن ميراثي الحقّ هو أن أكون فقيرًا إليك!. لم أشأ، بادئ ذي بدء، أن أكون فقيرًا!. أهواء نفسي أوهمتني أنّي غنيّ!. وعقلي، وعقلي!. ويحك يا نفس!. والآن تعلّمت أنّ كنزي هو أن أعرف أنّي فقير!. قبل اليوم، كنت قد سمعت عنك، واليوم، رأيتك في وجعي!. لذلك، أرفض، كأيّوب، ما أسأت به إليك، وأتوب في التّراب والرّماد!.

   الجوع، في الكنيسة، اليوم، إن لم يكن للحقّ، فما المنفعة؟!. “خدمة الموائد” انحطّت لأنّ الجوع بات إلى الخبز، وما عاد الخبز الحيّ يعنينا!. ولكن، حتّى الانحطاط ينفعنا!. هذه مرآتنا!. لست ألوم أحدًا!. استسمح في المسوح والرّماد!. كلّنا أثمنا لأنّ بعضنا يحمل أثقال بعضٍ إتمامًا لشريعة محبّة المسيح!. المهمّ أن نعود إلى المحبّة الأولى، إلى نبع المحبّة!.

   يوم نجلس إلى مائدة محبّة الله، يومذاك يكسر كلٌّ جسده، تلقاءً، لأخيه ليأكل، بعد جوع إلى الحنان، ويبذل دمه من أجله، بعد حرمان!. هذه “خدمة الموائد” الحقّ، الّتي تحكي الخدمةَ الحقّ، فوق!. والباقي تفاصيل تنتظم من ذاتها، خليقةً جديدة، ولو لم يكن لنا سوى خمس خبزات وسمكتَين!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
14 حزيران 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share