الإسلام والأقلّيّات الدينيّة والمذهبيّة – الأب جورج مسّوح
أثبت الإسلام المعاصر عجزه عن تقديم حلول ناجعة تُطمئن أبناء الأقلّيّات الدينيّة القاطنين بين ظهرانيهم. فما كان يبدو نجاحًا، إلى حدّ معقول، لنظام أهل الذمّة في العصور الغابرة، قبل ظهور عصر حقوق الإنسان والمواطنة والمساواة… وإنْ كان نظام أهل الذمّة، قديمًا، قد أسهم في الحفاظ على “أهل الكتاب” آمنين في ديارهم، فذلك لا يعني البتّة أنّ هذا النظام يليق بيومنا الحاضر.
كما أثبت الإسلام المعاصر عجزه عن السعي الحقيقيّ إلى التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، لا بل عجزه عن إيقاف التردّي في علاقات أبنائها بعضهم ببعض. وبات من المألوف نبش الفتاوى القديمة التي تكفّر بعض الفرق الإسلاميّة وتبيح دماء أتباعها، وتنفيذها هنا وثمّة. وبلغ الأمر ببعضهم ما لم يجرؤ الأوّلون أن يبلغوه، فكفّروا مذهبًا من المذاهب الإسلاميّة المجمَع على صحّة إسلامه.
لا غرو، إذًا، أن تطفو إلى سطح الأولويّات مسألة الأقلّيّات الدينيّة في سوريا، وفي العراق قبلها، هذه البلاد التي كانت نموذجًا في التنوّع الدينيّ والمذهبيّ باتت أبوابها مشرّعة اليوم لكلّ أنواع التكفير والتهجير والتطهير المذهبيّ.
لا يمكننا حصر المسؤوليّة في ما حدث، ويحدث، في سوريا بالجماعات الإسلاميّة المتطرّفة وحسب. فهذه الجماعات تبني آراءها وأحكامها على أقوال ومدوّنات الفقهاء والمفتين المعتمدين لدى الإسلام الوسطيّ التقليديّ. وما يبدو إبطالاً لبعض الأحكام التكفيريّة بحقّ بعض المذاهب لا يدوم إلاّ بالإرادة السياسيّة التي فرضت إبطاله لظروف معينة، فينتفي بانتفائها. وبكلام آخر، الإبطال ليس مؤسّسًا على فتاوى فقهيّة متينة تنسخ أو تبطل ما قبلها، بل على مشيئة السلطان السياسيّ في غالب الأحيان.
حين تعتبر الجماعات الإسلاميّة المسلّحة في سوريا أنّ المنتمين إلى أحد المذاهب غير مسلمين، وتاليًا كافرون، وأنّ عليهم ترك بعض معتقداتهم وممارساتهم، والالتزام بأحكام الإسلام… إنّما تأتي بأحكامها هذه من بطون الكتب القديمة، ولا تأتي بأمر جديد ولا ببدعة من لدنها. ولنا في الإبقاء على منع أبناء هذا المذهب، الذين يصرّون على أنّهم مسلمون موحّدون، من إتمام فريضة الحجّ إلى مكّة المكرّمة مثالٌ ساطعٌ على هذا العجز الذي يكبّل الإسلام الوسطيّ والذي يبيح للمتطرّفين فرض أحكامهم باسم الإسلام.
في الواقع، أخفق الفكر الإسلاميّ الوسطيّ وغير الوسطيّ في حلّ معضلة الأقلّيّات، ذلك لأنّه، كما قلنا سابقًا ونعيد ونكرّر، يقسم المجتمع إلى قسمين: المسلمون من جهة، وغير المسلمين من جهة أخرى. الفكر الإسلاميّ نفسه هو المسؤول عن استفحال الظاهرة الأقلّويّة، وعن عدم إيجاد الوسائل التي تسمح بانخراط أبناء الأقلّيّات في المجتمع الإسلاميّ تدفعهم إلى أن يكونوا أكثر التزامًا بقضايا المسلمين وتطلّعاتهم.
المشكلة الأساس لدى الساعين إلى الدولة الإسلاميّة، وسطيّون وغير وسطيّين على السواء، تكمن في عدم احترامهم للتنوّع السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ، وفي عدم احترامهم لخصوصيّات الجماعات التي تشكّل النسيج الوطنيّ الجامع لكلّ المواطنين.
لن تجد هذه البلاد الأمان، ولا أبناء هذه البلاد الطمأنينة، ما لن يعمل المفكّرون الإسلاميّون على تجديد حقيقيّ للفكر الإسلاميّ يقوم على اجتهادات جريئة في شأن أسس الدولة الإسلاميّة والاعتراف بحقّ الاختلاف المذهبيّ والدينيّ في المجتمع الإسلاميّ.
ليبانون فايلز
17 حزيران 2015