المؤسّسة القاتلة: خدمة الكلمة (٦) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Tuesday June 23, 2015 115

المؤسّسة القاتلة: خدمة الكلمة (٦) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   بعد الكلام على خدمة الموائد، نصل إلى الكلام على خدمة الكلمة.

   بعدما انتخب جمهور التّلاميذ، لخدمة الموائد، بناء لإيعاز الإثني عشر رسولاً (أعمال 6)، سبعة رجال، مشهودًا لهم ومملوئين من الرّوح القدس وحكمة، صلّى الرّسل ووضعوا على السّبعة الأيادي، وأقاموهم على الحاجة المعيشيّة للمحتاجين بين المؤمنين. أمّا الرّسل فانصرفوا إلى الاهتمام بالمواظبة على الصّلاة وخدمة الكلمة.

   bibleلأنّ الكلمة، عضويًّا، قرينة المحبّة، كانت عشيرة الصّلاة. هي المحبّة حافظة الصّلاة من الشّكليّة والطّقوسيّة المجوّفة. والمحبّة، في نهاية المطاف، غاية الصّلاة!. هذا هو ثالوث الحياة الرّوحيّة في كنيسة المسيح، الّذي منه تتفرّع كلّ الخِدَم والنِّعم والمواهب!.

   على هذا، كانت خدمة الكلمة – ولا زالت طبعًا – عمود البيعة، واعتُبر الرّسل الأعمدة لأنّهم ملتزمو خدمة الكلمة، فيها!. أعمدة، إذن عمارة!. والعمارة، الكلمةُ، فيها، هو حجر الزّاوية!. لذا للرّسل كان الإشراف في الكنيسة، وكذا تعيين المقامين على شتّى الخِدَم من جمهور التّلاميذ بوضع الأيدي، بالصّوم والصّلاة، علامة رضًى وختم ثقة وإحلال نعمة، لبنيان المؤمنين ووحدة البيعة!. هذا واقع الحجارة الحيّة، والبيت الرّوحيّ، الّذي تكلّم عليه بطرس في رسالته الأولى (2: 5)!. ثمّ الخدمة عينُها، خدمة الكلمة، أُسندت، بالتّسليم، إلى الأساقفة/الشّيوخ – الأسقف والشّيخ، أصلاً، عنيا الشّخص عينه – لكي ينحفظ التّعليم إيّاه بالأمانة الكاملة!. من هنا تأكيد يوحنّا، في رسالته الثّالثة، إلى المسمّاة “كيريّة المختارة، وأولادها”: “إن كان أحد يأتيكم، ولا يجيء بهذا التّعليم، فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلام…” (10)!.

   في خدمة الكلمة، كانت الحاجة إلى ثلاثة أمور: تدبير شؤون الرّعيّة (1 تيم 5: 17)، والوعظ والتّعليم (1 تيم 5: 17؛ 2 تيم 4: 2 – 3)، وتشجيع صغار النّفوس (1 تسا 5: 14)!. هذه تُتعاطى بالتّأنّي، ولكن بإنذار الّذين هم بلا ترتيب؛ بكلّ أناة، ولكن بتوبيخ المقاومين وانتهارهم؛ وعند اللّزوم بعزل الخبيث من بين المؤمنين!.

   ولأنّ خدمة الكلمة منطلقُها، قبل الوعظ والتّعليم، ما هو القيِّم عليه، فإنّ إطار الخدمة كان، منذ البدء، القدوة!. منذ يسوع، كان القول: تعلّموا منّي فإنّي وديع ومتواضع القلب!. تخرج كلمة الوعظ والتّعليم من جسد، ممّا تجسّد، وممّا هو في طور التّجسّد!. لا يعطي الخادم ممّا لم يقتنِه بالرّوح، لئلاّ يوجد دخيلاً، بل ممّا اقتناه بالجهاد والتّعب حبًّا، وأُعطي له، مجّانًا، بالنّعمة!. من روح الرّبّ فيه يغرف ويعطي!. لذا كان الخادم مَن يقدِّم نفسه كلمة قبل أن يقول الكلمة!. من هنا كثرة الكلام على القدوة والتّمثّل بالمتكلِّم!. يسوع يدعو إلى التّمثّل به؛ وبولس، أيضًا، أن “كونوا متمثِّلين بي كما أنا، أيضًا، بالمسيح (1 كو 11: 1؛ في 3: 17)؛ وتيموثاوس، تلميذ بولس، يدعوه الرّسول المصطفى لأن يكون قدوة للمؤمنين (1 تيم 4: 12)، لا في أمر بل في كلّ أمر: “في التّصرّف، في المحبّة، في الرّوح، في الإيمان، في الطّهارة”. والمؤمنون، كذلك، مدعوّون لأن يتمثّلوا لا بمدبّريهم، فقط، بل، أوّلاً، بالله (أف 5: 1)!. إذًا ما لله يأتيهم بما لمدبِّريهم!. الحثّ على التّمثّل بالخير (1 بط 2: 13) يعادل القول بالاقتداء بمَن يسلكون في الخير، ما يعني التّحذير والحذر من التّمثّل بالشّرّ (3 يو 11)، في الأشرار!. ولكنْ، كيف يحذرون الشّرّ قبل أن يذوقوا الخير في الأخيار أوّلاً؟ فإن كان قصد الكرازة بالكلمة الخيرَ في الرّوح القدس، فما لم ينضح خادمُ الكلمة خيرًا، فإنّ الكلمة في فيه تبطل، أو تكون للتّمويه والضّلال!.

   على هذا، شرطان، بخاصّة، ينبغي توفّرهما في الأسقف، كناظر ومشرف، كما ورد في رسالة تيموثاوس الأولى: أن يكون بلا لوم، وأن يكون صالحًا للتّعليم!. الأوّل، معناه، أن يكون سالكًا، عن حقّ، في القداسة، والثّاني أن يلهج بالرّوح القدس!. يسوع تَعلَّم من فوق، والرّسل، حتّى بولس ويوحنّا، كانوا كذلك!. هذا لا يعني أنّ الكتب لا تنفع، بل إنّ الكتب لا تكفي، لأنّه حيث لا روح في مَن يقرأ، فإنّه، ولو قرأ، فإنّه لا يقرأ الرّوح في ما يقرأ!. ثمّ الرّوح، متى ملأ الكيان، في المدى الأخير، فإنّ القارئ لا يعود بحاجة لأن يقرأ في صحائف ورقيّة، لأنّه يقرأ، إذ ذاك، الرّوحَ في ألواح قلبه اللّحميّة، تبعًا للقول النّبويّ: “أجعل شريعتي في داخلهم، وأكتبها على قلوبهم” (إر 31: 33)!.

   كلّ هذا، وما إليه، في شأن خدمة الكلمة، يبيِّن أنّ خادم الكلمة هو خادم لله في الكنيسة، لا أكثر!. أقول هذا لأؤكّد أنّه لا سلطة للخادم، لمجرّد أنّه معيَّن لخدمة الكلمة، بالسّيامة ووضع الأيدي!. طبعًا، الخادمُ يُنتخَب، بعد التّدقيق في ما له علاقة بأهليّته، تبعًا للشّروط المبيّنة أعلاه!. غير أنّ القول، في شأن المدبِّرين، أو المرشِدين، هو “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم” (عب 13: 17)، وكذا “أن تعرفوا الّذين… يدبِّرونكم في الرّبّ” (1 تسا 5: 12)، ولكنْ لا لأنّهم معيَّنون عليكم، بل “لأنّهم يسهرون لأجل نفوسكم” (عب). الحثّ هو على “أن تعتبروهم كثيرًا جدًّا في المحبّة من أجل عملهم” (1 تسا)!. إذًا، اعتبارنا لهم وطاعتنا إيّاهم يأتيان لا من سلطانهم علينا بل من علاقة المحبّة الحيّة الّتي تربطنا بهم!. لأنّنا قائمون وإيّاهم “في المحبّة”، بحسب تعبير الرّسول بولس إلى أهل تسالونيكي!. بين طاعة السّلطة وطاعة المحبّة فرق شاسع!. السّلطة مفروضة بقوّة الموقع الّذي يكون فيه مَن هو في السّلطة!. تأتي كَمِن خارج الجماعة، على الجماعة!. فيما المحبّة هي الرّابط الّذي يشدّ الأعضاء في الجماعة، بعضَهم إلى البعض الآخر!. وفي المحبّة تبنٍّ لا فرض!. لذا لا سلطة في الكنيسة بل خدمة محبّة!. المقامون علينا نطيعهم من أجل عملهم، لأنّهم يسهرون لأجل نفوسنا!. طبعًا، طبعًا، انتخابهم وإقامتهم، بالسّيامة ووضع الأيدي، مهمّ، ولا غنى عنه، ولكنْ لا لأنّ هذا الأمر، في ذاته، كافٍ لتحقيق وحدة الكنيسة وبنيان المؤمنين، بل لأن، في السّيامة القانونيّة، حفظًا للتّراث المسلَّم مرّة للقدّيسين!. فبالانتخاب والتّعيين، نبقى في خطّ الإيمان القويم!. لكنْ، هذا معطى لنا لنحقّقه “في المحبّة”!. أيكفي أن تعيِّن لأولادك خادمًا شرعيًّا ليتلقّى أولادُك الرّعاية الكافية؟ تعيِّنه ليتعب من أجل نفوسهم، فإن فعل كان أهلاً للطّاعة والاعتبار، وإن لم يفعل كان دخيلاً على بيتك، و/أو مستغِّلاً لموقعه لديك!. ماذا تفعل، إذ ذاك؟ تنذره!. فإن ارعوى، ربحتَه وربحتَ الرّعاية الحسنة لأولادك!. وإن لم يبالِ وأعاث في الكنيسة عبثًا وفسادًا، فوَرَماً خبيثًا يكون!. لا يجوز لك، إذ ذاك، أن تهادنه أو تتغاضى عن وجوده النّاشز، لئلاّ توجَد مفرِّطًا بكنيسة المسيح ونفسِك، كشاهد زور فيها، بل تعزله، وفق قول الرّسول أن “اعزلوا الخبيث من بينكم” (1 كو 5: 13)!.

   لضبط المخالفة وتأديب المخالفين كان الشّرع الكنسيّ!. فإن سُيِّبت المخالفة، وماعت ممارسة الحقّ الكنسيّ، أحاقت بالمؤمنين والبيعة مخاطر عظيمة!.

   الكبار، عندنا، هم القدوة!. فحيثما انتفت القدوة الصّالحة، ساد التّفلّت، لا محالة!.

   عندما وُجد الأمبراطور قسطنطين السّادس في المخالفة، في القرن التّاسع الميلاديّ، وكذا البطريرك نيكيفوروس، خوفًا على الكنيسة، من أذى الأمبراطور، أقام القدّيس ثيودوروس السّتوديتيّ الكنيسة ولم يقعدها؛ وقطع الشّركة مع الأمبراطور والبطريرك، سواء بسواء!. وقد تكبّد، من جرّاء ذلك، ما تكبّد من مشاق واضطهادات!. لسان حاله كان: إذا ما تُرك رأسُ الهرم ليتمادى في المخالفة، ولم يوقَف عند حدّه، فإنّ الكثرة الكثرة سوف تحذو حذوه فتخرب الكنيسة!. لا سكوت عن الفساد، ولا رحمة للمخالِفين حتّى يعودوا عن مخالفتهم بتوبة صدوق!. لذا، لمّا أُنهك القدّيس ثيودوروس، ممّا أبداه من روح المقاومة للمخالفة، ودنت ساعة فراقه، سأل تلاميذه أن يبدأوا بخدمة الجنّاز عليه، فلمّا بلغوا الآية 93 من المزمور 118، والّتي فيها: “لن أنسى فروضك أبدًا لأنّك بها أحييتني”، فقط، إذ ذاك، أغمض عينيه وأسلم الرّوح بسلام!.

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
21 حزيران 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share