المؤسّسة القاتلة : خادم الكلمة المحيي (٧) – الأرشمندريت توما (بيطار)

mjoa Monday June 29, 2015 112

المؤسّسة القاتلة : خادم الكلمة المحيي (٧) – الأرشمندريت توما (بيطار)

   خادم الكلمة لا يستطيع أن يكون خادمًا أمينًا للكلمة ما لم يكن هاجسُه الأوحد التّمثّل بالمسيح الكلمة! فإنّه ما لم يَسعَ، على نحو متواتر، لأن يصير على شبه الرّبّ يسوع فإنّه لا يقدر أن يكون قدوة للمؤمنين! وإن لم يكن قدوة للمؤمنين، فإنّه، بكلّ بساطة، وبكلّ صراحة، لا يكون مؤمنًا بابن الله، بالرّوح والحقّ!

bible-crossوإذا لم يكن مؤمنًا، بالرّوح والحقّ، فإنّه إذا حسب نفسه مؤمنًا، أو إذا حسبه الآخرون مؤمنًا، فإنّه يكون موهومًا ويكون الآخرون، في شأنه، مخدوعين أو ممالقين! لا تكون الرّعاية، في جوهرها، بالطّقوس، ولا بالكلام، ولا بالشّهادات العلميّة، ولا بالتّرتيل، ولا بالأنشطة الاجتماعيّة، ولا بالتّهذيب، ولا بالتّسامح، بل بالمحبّة الإلهيّة! المحبّة هي إطار هذه الأمور وأمثالها! من دون المحبّة في الحقّ، لا فقط لا قيمة، في ذاتها، لما ذكرتُ، بل ما ذكرتُ يكون مؤذيًا لأنّه يحدِّث عن الله ويروِّج للأوثان، يدعوك إلى الرّوحيّات ويستاقك إلى النّفسيّات، يكلِّمك على الملكوت ويغرقك في الدّهريّات! لم يسأل الرّبّ يسوع بطرس ما إذا كان يقيم الطّقوس، وفقًا للأصول التّيبّيكونيّة للشّريعة، ولا ما إذا كان فصيح اللّسان، لبق الكلام، ولا ما إذا كان خرّيج مدارس الفرّيسيّين، ولا ما إذا كان ذا صوت جميل، ولا ما إذا كان ناشطًا في المجتمع العبريّ، ولا ما إذا كان لائقًا في سلوكه مع النّاس، ولا ما إذا كان متسامحًا في تعامله معهم! سأله، ثلاثًا، سؤالاً واحدًا: “أتحبّني يا بطرس”؟ وثلاثًا، قال له: “إرعَ خرافي”! رعاية الخراف مرتبطة، جوهرًا، بمحبّة يسوع، وبمحبّته وحدها! هذه القولة تُفهَم بمعنيَين: إذا كنتَ تحبّني فإنّك ترعى خرافي، وإذا رعيت خرافي، فإنّك، إذ ذاك، تحبّني حقًّا! بمحبّة يسوع، كلّ شيء يستقيم، ومن دون محبّته، كلّ شيء يعوجّ! أمّا القويم والأعوج فقال مرنِّم المزمور فيهما، موجِّهًا كلامه لله: “مع القويم تكون قويمًا، ومع الأعوج تعمل طبق اعوجاجه” (17: 26)!

   ليس خادم الكلمة مجرّد إنسان! هذه هرطقة! لو كان خادم الكلمة مجرّد إنسان فلِمَ يُنْزَل إلى جرن المعموديّة؟! لِمَ أُعطي أن يولد من جديد؟! لِمَ كانت العنصرة؟! لِمَ ندعوه: السّيّد القدّيس، الأب القدّيس؟! حتّى المؤمنون، لِمَ نسمِّيهم قدّيسين؟! هذا ليس كلامًا مجازيًّا بل تعبير عن واقع جديد! خادم الكلمة لا يُدْعَى قدّيسًا لأنّه يسعى لأن يكون قدّيسًا، أو لأنّه يتعاطى القدسات، فقط! خادم الكلمة قدّيس لأنّه خادم القدّوس! القدّوس يعطيه أن يكون قدّيسًا لكي يؤهِّله لخدمته، وإلاّ كيف يصير خادمًا له؟! هل هناك قداسة خارج سياق القداسة؟! أم هناك خدمة كلمة بمعزل عن خدمة القدّاسة؟! أليست خدمة الكلمة رعايةَ خرافِ المسيح للقداسة؟! أيّ نبيّ حقّ لم تمسّ الجمرة المأخوذة من مذبح الله لسانه؟! أم أيّ أسقف، أو كاهن، أو شمّاس، لم تقدّسه النّعمة الّتي تكمِّل النّاقصين؟! إذًا، خادم الكلمة قدّيس لأنّه مغمَّس في نعمة القدّوس، ولأنّه ينمو، كلَّ حين، في القداسة، ولأنّ قِبلته، كلَّ آن، أن يبلغ، في القداسة، ملء قامة المسيح! خادم الكلمة إنسان تألّهيّ لأنّ الإله الّذي يخدم بات إلهًا متجسِّدًا! نحن بإزاء عالم فذّ جديد، حياة فذّة جديدة، واقع فذّ جديد! الإله المتجسِّد أَبدع، بالرّوح القدس، من ذاته، إنسانًا جديدًا، متألِّهًا! لا فيما بعد، بل منذ الآن! لم نعد من سلالة آدم العتيق، قصْرًا، ولو بدأنا به، بتنا من سلالة آدم الجديد، جماعةً بشريّة إلهيّة! جدّةٌ في الرّوح تستتبع جدّة في المسرى!

   إلهنا نار آكلة، تندّي الّذين يتعاطونها بخوف الله وإيمان ومحبّة، أو تُحرق، كما بنار لا تُطفأ، كالقش، الّذين لا يلبسون لباس عرس الختن، بل يتمرّغون في حمأة نفوسهم!

   رهيب الوقوف لدى الله الحيّ، ورهيبة خدمة كلمته! المتطفّلون يتغيّبون أو لا يجوز أن يسمح لهم الشّعب المؤمن بأن يجلسوا في كرسيّ الكلمة! ويل لمَن يجلسون حيث لا ينبغي! وويل لنا، إذا ما نامت نواطير البيعة عن ثعالبها! الكنيسة الّتي تنام على مفاسدها محكوم عليها بالفناء!

   خادم الكلمة روح في آنية فخّاريّة! بلا روح، نحن بإزاء مؤسّسة دهريّة ذات شعارات إلهيّة! مضمونها دهريّ! روحها دهريّة! ومراميها دهريّة! وحيث لا روح، كان خادم الكلمة نفسانيًّا! حَكَمَه مزاجُه، وسادت عليه أهواؤه! السّيادة، في الكنيسة، إذ ذاك، تكون للمشاعر والانفعالات، للانطباعات والتّصوّرات! الفكر، إذ ذاك، بشريّ، والإلهيّات موضوعه! فكرُ المسيح شيء آخر تمامًا! هذا فكر روحيّ! ما الفكر الرّوحيّ؟ هو عمل روح الله يتمثّله القلب، ويمكن العقلَ المدرِكَ أن يعبِّر عنه، قدر الطّاقة! العقل المدرِك، إذ ذاك، يحكي ما في القلب! يأخذ ممّا في القلب ويتكلّم! فكرُ المسيح وروح المسيح فينا واحد! فقط إذا كان فيك روح الاتّضاع والصّبر، أمكنك أن تعلِّم الاتّضاع والصّبر! إذا لم تكن فيك المحبّة فكيف تقول المحبّة؟ كيف تعلِّمها؟ تنقل ما في الكتب؟ تكتفي بالعنعنة، وبما قاله فلان وفلان وفلان عن المحبّة، تحلِّل، ثمّ تركِّب، ثمّ تستنتج؟! هذا يعطي موضوعًا إنشائيًّا، كلامًا في المحبّة، ولا ينقل روح المحبّة، قوّة المحبّة، حقيقة المحبّة، في كلمات! ما الفرق بين ما علّمه يسوع وما علّمه الفرّيسيّون؟ يسوع علّم بسلطان! لأنّه محبّة، علّم بقوّة المحبّة، ومن ثمّ كان تعليمه بسلطان! في العمق، تكلّم بما يعرف لا لأنّه كان صاحب معلومات فوق المعتاد، بل لأنّه قرّب نفسَه عِلْمًا جديدًا! لا فقط، تعلّموا مما أقوله لكم، بل تعلّموا منّي! لا مسافة بينه وبين الكلمة! هو الكلمة، والكلمة إيّاه! لذا قال الكلمةَ ليعطينا أن نصير كلمات!

   القول عينه يقال في عقيدة الكنيسة! مَن ليست محبّة الله فيه، فكيف يقول الثّالوث؟! هل الثّالوث مسألة كلام، أم واقع محبّة، هو مصدر كلِّ محبّة، وكلِّ سكنًى لله فينا؟! فصل العقائد عن الرّوحيّات أصل لكلّ الهرطقات؟! العقائد أساس الحياة الرّوحيّة! نهتمّ بالحفاظ على العقيدة القويمة لأنّنا، بها، نلتمس أصول الحياة الرّوحيّة، أصول المحبّة الإلهيّة! فقط، في المحبّة، نعرف الثّالوث ونشهد للثّالوث! نقيم في الثّالوث! بغير المحبّة، لا معنى لله ثالوثًا! الثّالوث، إذا ما كان لنا أن نحدِّده في فعله، هو كمال المحبّة، في انعطاف المحبوب على المحبوب، في الله!الثّالوث، بهذا المعنى، كمال الحركة الدّاخليّة، في الله، وليس عددًا! افصِل الثّالوث عن المحبّة، وتكلّم عليه خارج سياق المحبّة، تنتهِ بالله فكرةً، ولو وحّدتَه! وحدَةُ المحبّة غير وحدة الفلسفة! وحدة المحبّة ملؤها! والملء كيان! الله محبّة! فيما وحدة الفلسفة مسعًى عقليّ، ومن ثمّ مختلق، يُسقطه العقل على الله، ولا يستمدده منه، ولو ادّعى العكس، نحو تكوين تصوّر لديه للغزِ تكوينِ الكون يرتاح له العقل! وهذا من نتاج سقوط العقل، أنّه يروم تهدئة ما في عمقه من قلق كيانيّ، بالسّعي، أبدًا، إلى القبض على فهم حقيقة الوجود، وما يستطيع! الله هو القابض علينا بمحبّته؛ لسنا نحن القابضين عليه بعقولنا! ساعة نترك لله، بمشيئتنا، أمر القبض علينا، بروحه – في يديك أستودع روحي _، ساعتذاك نكون مؤمنين به، وساعتذاك يدخلنا الإيمان في محبّته، فتعطينا محبّتُه، بالرّوح، أن نعرفه، وأن نشهد له، لا بقوّة الكلام، بل بقوّة الرّوح والحقّ!

   خادم الكلمة هو المدرسة الحقّ للكلمة! هو الآتي بنا إلى الكلمة! مدرسة اللاّهوت الّتي تخرِّج خدّامًا للكلمة، وعليها، في ذاتها، اعتمادُنا، هرطقة روحيّة! هذه مؤسّسة فكريّة دهريّة، تتعاطى الموضوعات الإلهيّة، مهما اهتممنا بأخلاقيّاتها وطقوسها وفنونها، ولا تتعاطى كلمة الله الحيّ ولا روح الله، ولا تستطيع! وحيث لا روح في خدّام الكلمة، تمسي مدارس اللاّهوت بدائل نفسانيّة فكريّة عن عمل روح الله القدّوس! مَن تُنتجهم مدارس اللاّهوت، إذ ذاك، من خدّام للكلمة، لا يعدون كونهم، أكثر الأحيان، مومياءات متحفيّة تقتل الرّوح، ولا تبالي بالرّوح، لأنّه لا روح فيها! بالرّوح كلّ تدبير يُحيي، بما في ذلك العلوم والكتب، وبالمحبّة كلّ جهد يبني ويشهد لله، وبلاهما، الرّوح والمحبّة، نصيبُك مؤسّسة قاتلة، مهما كانت منظّمة! تنظيمها قبورٌ مجصّصة ورصف عظام أموات!

الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي
دوما – لبنان
28 حزيران 2015

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share