كيف نُحِبُّ وكيف نَتْرُكُ – الأب ميخائيل الدبس
“مَنْ أَحَبَّ أَبًا أو أُمًّا أكثر منِّي فلا يَسْتَحِقُّنِي. ومَنْ أَحَبَّ ابْنًا أو بِنْتًا أكثر منِّي فلا يستحقُّنِي” (متّى 10: 37).
” وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَدًا أَوْ حُقُولاً مِنْ أَجْلِ اسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ” (متّى 19: 29).
للكتاب المقدّس، عمومًا، قراءتان: الأولى حرفيَّة-ناموسيّة، والثَّانية كتابيّة-روحيّة.
* الأُولَى، لا تعرِفُ من الكتاب إلَّا حروفًا وكلماتٍ تُسْتَخْلَصُ منها أوامرٌ تُسَمَّى إلهيَّة يُطْلَبُ تنفيذها دون إدراكٍ للمعنى الخَلاصِيّ الكامِن وراء الكلمات والحروف. وكثيرًا ما تُعْتَمَدُ هذه القراءة، للأسف، في بعض خطابات الواعِظِين ومِنْ على المَنَابِرِ الكَنَسِيَّة. قراءةٌ كهذه تشوِّه الكتابَ، وتَنْحَتُ للهِ أصنامًا بعيدةً عن الحقيقة، إذ تحوّله من إلهٍ يَبْغِي شركةَ حياةٍ معنا إلى إلهٍ يُصْدِرُ الأَوَامِرَ، والويلُ والنَّارُ لمن يُخَالِفُهَا. على مِثَالِ هذا الإله يُؤسَّسُ التَّسَلُّطَ على البشر.
* الثَّانِيَةُ، تقرأُ الكلماتِ والحروف على ضوءِ فِكْرِ الكتابِ المقدَّسِ وروحِهِ اللَّذَيْن يهدفان إلى كـشفِ الحـيـاةِ الإلهيَّةِ للبشرِ لتكونَ نموذجًا خلاصِيًّا لحياتِهِم وتقديسِهِم. فالكتاب لا يُفْهَمُ إِلَّا بالكتابِ وبالرُّوحِ القُدُسِ الَّذي أَوْحَى به. هذه القراءة تَجْعَلُ من الكتابِ مجالَ شركةٍ وأُلْفَة مع إلهٍ مُحِبٍّ يُعْطِي ولا يأخذُ، يُفِيدُ ولا يَسْتَفِيد. على مِثَالِ هذا الإله تُؤسَّسُ محبَّةٌ للبشر وشركةُ حياة.
* تمثِّلُ قراءة هاتَين الآيَتَيْن نموذَجًا واضِحًا لما ذُكِر. قراءةٌ ناموسِيَّة للآية الأُولى (متَّى 10: 37) تقودُنا إلى جَعْلِ محبَّتنا لأهلنا عائقًا أمام محبّتنا لله، وتاليًا إلى وَضْعِ حدود لهذه المحبَّة حتَّى نستحِقّ المسيح. إشكالِيَّاتٌ كُبْرَى تَنْشَأُ عن مِثْلِ هذه القراءة: ما هي حدود محبَّتِي لأَهْلِي؟. كيف أحبُّ المسيحَ أكثر منهم؟. هل هناك قياساتٌ كُبْرَى من المحبَّة يطلُبُهَا اللهُ مِنَّا تُجَاهَهُ تَخْتَلِفُ عن قياساتٍ أُخْرَى أَصْغَر منها نَخُصُّ بها آباءَنا وأُمَّهَاتنا وأبناءَنا؟. هل يبدو لنا المسيح، هنا، بهذه النَّفْعِيَّة الَّتي لا تَحْتَمِلُ أن يكونَ البشرُ محبوبين أكثر منه؟. هل محبَّةُ البشر لآبائهم وأبنائهم تَحُطُّ من قَدْرِ محبَّتِهِم لله؟… أسئلة تُقْلِقُنَا إذا وقفنا عند كلمات هذه الآية وحروفها، وإذا انتزعناها من سياق النَّصِّ الكتابيّ.
* قراءةٌ كتابِيَّةُ للآيةِ تُجِيبُ على هذه التَّسَاؤُلات، بل لا تَطْرَحُها أَصْلًا. الإصحاح العاشِر من مَتَّى هو كلامٌ من الرَّبِّ مُوَجَّهٌ إلى الرُّسل لتنبيههم من الاِضطهاداتِ الَّتي سيُعَانُونَ منها خلال تبشيرهم باسمه، ومن التَّضحِياتِ الَّتي يتطلَّبُها هذا التَّبشير. ودافِعُ التَّبشير هو المحبَّةُ والمحبَّةُ فقط، محبَّةٌ للبشر على قدر ما هي محبّةٌ لله، وهدفُه نقل محبَّة الله، الَّتي خَبِرُوهَا في حياتِهم معه، إلى البشرِ أَجْمَعِين. لـيـسَ هـنـاك مـن تَـبَـايُـنٍ أو مُـنَـازَعَةٍ بين محبَّةِ الإنسانِ للإنسانِ ومحبَّةِ الإنسان لله. كِـلَاهُـمَـا انْـعِـكَـاس لمـحـبَّـة الله الَّـتـي سـكـبَـهَـا علـيـنـا. “أَحِـبُّـوا بـعـضُكُـم بـعـضًـا كـمـا أنـا أحــبـبـتُـكُـم” (يـوحـنَّـا 13: 34)؛ “لــتــكــونَ فـيـهـم المحبَّةُ الَّتي أحببتَني إيّاها” (يوحنّا 17: 26). وإذا لم تكن هكذا فستكون محبَّةً نفعِيَّةً والنَّفعِيَّةُ نقيضةُ المسيح. صاحبُهَا لا يبشِّرُ إلَّا بذاته ولا يُحِبُّ إلَّا ذاته. من يرى في الأب والأمِّ والأبناءِ امتدادًا لذاتِه هو يحبُّهُم أكثر من المسيح، لأنَّه يحبُّ ذاتَه أكثر من المسيح.
*في الآية الثَّانِيَة (متّى 19: 29) الطَّلَبُ أكثرُ قساوة من الأولى. هنا يطلُبُ المسيحُ منك لا أن تُحِبَّ أهلك أقلّ بل أن تتركَهُم. القراءةُ الكتابيّة لهذه الآية تُكْمِلُ فهمَنَا للآية الأُولى. السِّياقُ الَّذي وَرَدَتْ فيه هذه الآية هو الَّذي يُقْصِي سوءَ فَهْمِنَا لها. الكلامُ في هذا الإصحاح التّاسِع عشر هو عن الشَّابِّ الغنيِّ الَّذي حَجَبَ غِنَاه عنه الحياةَ الأبديَّةَ وعن ضرورة التَّخَلِّي عن الخيراتِ المادِّيَّة كمصدرِ خلاصٍ للبشر. والمُلْفِتُ في تَعْدَادِ الأهلِ الزَّمَنِيِّ، حيث يَطلُبُ تركهم، أنّه يبدأ بالبيوت وينتهي بالحقول. يحيطُ الأهلَ بعقاراتٍ مادِّيَّة وكأنَّ العنصرَ الجامعَ بين الأهل والعقارات، والَّذي يطلبُ المسيحُ من اتباعه ترْكَه هو المنافع والمكاسب النَّابِعَةُ منه. ما هو مطلوبٌ أن يُترَكَ من طرف المؤمن هو ما يكسبه من الأمومة والأبوَّة والأُخُوَّةِ والبُنُوَّةِ ومن الحقولِ والبيوت، أي المالُ والاِستقرارُ وراحةُ البالِ والأمان والحنانُ. سياقُ النَّصِّ يتحدَّثُ عن التَّضحية والتَّخَلِّي كمبدأ سلوكيٍّ شامِلٍ في حياة المؤمن ليكونَ على صورةِ لا نفعيَّةِ الله. من تَرَكَ أبًا أو أُمًّا أو أخًا أو ابنًا حُبًّا بذاته أو استقالةً من مسؤوليّةٍ تجاههم أو طَلَبًا لراحةِ بال، ولو بحجّة التَّفَرُّغ للعبادةِ والتَّكريس لله، هو منافِقٌ. لك أن تتركهم حين تكونُ أنتَ بحاجةٍ إليهم وتتكرَّسُ لله. تركك والحالة هذه تضحية تَهبُك الحياة الأبديَّة. أمّا إذا كانوا هم بحاجة إليك فتركك لهم أنانيّة هدفُها تجنُّبُ العطاء والألم في سبيل من تَدَّعِي أنَّك تُحِبُّهُم وأنَّك تحبُّ المسيح أكثر منهم!!!.
نشرة الكرمة
28 حزيران 2015